الخرتتة! - بلال فضل - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخرتتة!

نشر فى : السبت 8 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 8 يونيو 2013 - 10:04 ص

لا تطلب من الخراتيت أن توسع زاوية رؤيتها أبدا، صدقني يمكن أن تقنع الخرتيت بضرورة التحليق بخياله عاليا فقط إذا أقنعت الصقر بضرورة الإستقرار الهامد على الأرض، لذلك لا تحاول أبدا تغيير منطق الكائنات، وحافظ على إنسانيتك  من الخرتتة، واسأل الله السلامة.

 

كل المراجع العلمية تجمع على أن الخرتيت مُبتلى بقصر النظر، مما يجعله يهاجم أولا قبل أن يتبين ليكتشف الهدف الذي يهاجمه بعد فوات الأوان، قصر النظر هذا يجعل الخرتيت أحيانا حين دفاعه عن نفسه وصغاره ضد المهاجمين يقوم بدهس صغاره والقضاء عليهم بنفسه، بسبب عيب قاتل كهذا لا يستفيد الخرتيت من وزنه الثقيل الذي يجعله من أضخم الكائنات الحية، ولا من قدرته على الجري بسرعة تقترب من سرعة الحصان برغم أنه لا يستطيع مواصلة الجري كالحصان.

 

وربما لذلك يفضل الخرتيت أن يعيش دائما بمفرده في عزلة تامة، لكنه مع ذلك لا يفلت من الكائنات التي تلتصق بجلده السميك لتعيش على ما يوجد به من فضلات، ولا من الطفيليات التي تمتص من جسده ما يعادل أربعة ليترات دم يوميا، وهو ما يسبب له حالات من الغضب الجنوني جلبت له لقب أشد الكائنات الحية غباءا، وبرغم كل هذا فإن حيوان الخرتيت لا يشكل أبدا نفس الخطورة على البشرية التي يشكلها البشر الذين قرروا أن يتحولوا إلى خراتيت بمحض إرادتهم.   

 

في مسرحيته البديعة «الخرتيت» يحكي المؤلف المسرحي الأشهر أوجين يونسكو عن مدينة صغيرة تشهد ظاهرة تقض مضاجع سكانها، هي رؤيتهم لعدد من الخراتيت تتحرك في شوارع المدينة، فيظنها البعض في البدء هاربة من حديقة حيوانات قريبة، ثم يتضح أن الخراتيت التي كان يراها الناس ليست سوى أنفسهم.

 

فقد نمت قرون خرتيتية على رؤوسهم جميعا بما فيهم الرجل الذي كان يسميه الجميع رجل المنطق، وأصبحت جلودهم خشنة سميكة وتحولت أصواتهم إلى خوار، ليصبحوا قطيعا من الخراتيت ينشر الخراب في مدينتهم، ولا يصمد في مواجهة هذه الخرتتة الشاملة سوى مواطن وحيد يصر على الإحتفاظ بآدميته ويرفض أن يتخرتت كباقي سكان مدينته مهما كلفه ذلك من ثمن.

 

أراد يونسكو أن يقدم في مسرحيته صرخة ضد مخاصمة البشر لحريتهم وفرديتهم ليقبلوا الحياة في صفوف القطيع، ورغم أن المسرحية ظهرت إلى النور عام 1960 إلا أن فكرتها كما قرأت في مقال للناقد المسرحي علي كامل ظهرت لدى يونسكو قبل عشرين عاما وسط زحف الأفكار الفاشية والنازية على العالم، حيث عثر في دفتر مذكرات يونسكو على مقطع كتبه سنة 1940 يقول فيه «الشرطة خراتيت والقضاة خراتيت وأنت الإنسان الوحيد وسط كل هذه الخراتيت. كيف يمكن أن يدار العالم من قبل البشر؟ هكذا تسأل الخراتيت نفسها. إسأل نفسك أنت: هل حقيقة أن العالم قد أدير يوما ما من قبل البشر». 

 

في أحد فصول المسرحية التي نشرتها الهيئة العامة للكتاب ضمن الجزء الأول من الأعمال المسرحية الكاملة ليونسكو بترجمة للدكتور حمادة إبراهيم، يقول دودار صديق البطل رافض الخرتتة لصديقه بيرانجيه «أنت لن تصبح خرتيتا.. هذا أمر محقق، فليس لديك الإستعداد ذلك»، ليكشف لنا أن يونسكو في مسرحيته لا يبرئ المتخرتتين من مسئوليتهم عما أصابهم، فقد كان لديهم الإستعداد منذ البداية أن يسمحوا لمشاعرهم بالتبلد كل على طريقته الخاصة في الخرتتة.

 

فقد بدأ صديقه جان مثلا طريقه إلى الخرتتة باستنكاره الدائم  لإعتقاد أن البشر أفضل من الخراتيت ودفاعه عن حق البشر في أن يتخرتتوا إذا كان ذلك يريحهم معلنا أنه لا يمانع أن يكون خرتيتا من باب التغيير ليتحول فعلا إلى خرتيت.

 

أما دودار نفسه فقد بدأ طريقه إلى الخرتتة بالتوقف عن رؤية العيوب الحقيقية في كل ما حوله قائلا «الويل لمن يرى العيب في كل مجال فهذه سمة المفتشين»، معتبرا إن استنكار بيرانجيه لتحول البشر إلى خراتيت عصبية لا تليق به، وبعد رحلة طويلة من التبرير لأخطاء المتخرتتين ومحاولة تفسير مواقفهم والتسامح مع ما يسببونه من دمار، ينتهي بدودار المطاف إلى أن ينضم إلى الخراتيت تاركا صديقه بيرانجيه وهو يحاول التمسك بإنسانيته من خلال حبيبته ديزي التي تظهر عليها أيضا أعراض الخرتتة شيئا فشيئا عندما تشعر بالخجل من الحب الذي تبدأ في اعتباره ضعفا بشريا وشعورا مريضا.

 

وعندما يعرض عليها بيرانجيه أن ينجبا طفلا لينقذا العالم بحبهما فيكونا آدم وحواء جديدين، تقول له «قد نكون نحن الذين نحتاج إلى إنقاذ، قد نكون نحن الشاذين عن غيرنا»، قائلة له أن من تخرتتوا قد يكونون «هم الناس، فالبهجة بادية على وجوههم ويشعرون بأنهم على ما يرام في جلودهم، لا يبدو عليهم أنهم مجانين، إنهم طبيعيون جدا، لقد كانوا على حق»، يصرخ فيها محاولا إقناعها بخطأ ما تقوله، فتصدمه بقولها أن حياتهما معا لم تعد ممكنة، وتنسحب من حياته في هدوء لتنضم إلى الخراتيت دون حتى أن تشرح موقفها له.

 

يصرخ بيرانجيه من نافذته في الخراتيت الذين يحيطون به من كل إتجاه «لن تنالوني، لن أتبعكم، أنا لا أفهمكم، سأظل كما أنا، أنا كائن بشري، أنا كائن بشري»، لكنه للحظات يشعر بالرعب عندما يجد نفسه وحيدا في إنسانيته، فيحاول إقناع نفسه بعد نوبة ضعف انتابته أن الخراتيت ليست قبيحة كما يتصور، ويبدأ في تمني أن يتخرتت هو أيضا مثل سابقيه، ثم يحاول أن يقلد خوار الخراتيت فيفشل فشلا يجعله يستعيد نفسه صارخا في إنتفاضة غضب ينهي بها يونسكو مسرحيته «الويل لمن أراد أن يحتفظ بتفرده، حسنا ليكن ما يكون، سأدافع عن نفسي ضد العالم أجمع، سأدافع عن نفسي، أنا آخر إنسان وسأظل كذلك حتى النهاية. لن أستسلم».  

 

اللهم وإن تخرتت البشر من حولنا وقرروا فقد إنسانيتهم، فاحفظ علينا إنسانيتنا، ولا تؤاخذنا بما فعل المتخرتتون منّا، والطف بنا فيما جرت به المقادير. 

belalfadl@hotmail.com