خللى عندك صوت - معتز بالله عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 10:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خللى عندك صوت

نشر فى : السبت 9 يناير 2010 - 9:54 ص | آخر تحديث : السبت 9 يناير 2010 - 9:54 ص

 سامحونى على استخدام عنوان بالعامية ولكنه اسم حملة على مدونات الانترنت تطالب الشعب المصرى بأن يستغلوا الفترة التى يمنحها القانون لاستخراج بطاقة انتخابية حتى 31 ديسمبر 2010. مصر بحاجة لأبنائها كى يحددوا مستقبلها. وإن تراجعوا عن ندائها لهم بأن يحددوا مصيرها فقد حكموا عليها بأن يكون أجمل ما فيها ماضيها. وتعالوا نرصد القصة من بدايتها.

فمنذ أن وحد مصر مينا نارمر قبل 5000 سنة، كان هناك مصدران أساسيان للشريعة السياسية؛ وشرعية نظام الحكم تعنى استقرار فكرة القبول الشعبى لخلطة الأشخاص والأفكار والمؤسسات التى تقوم بوظائف الدولة الأساسية الخمس؛ العسكرية (أى الأمن)، والأيديولوجية (أى القيم)، والاقتصادية (أى الرفاهة)، والإدارية (أى التنظيم)، والسياسية (أى إدارة الصراع). ويبدو أن المصريين كانوا أكثر ميلا لقبول نظم الحكم التى تقوم بإنجاز الوظيفتين العسكرية والأيديولوجية كحد أدنى، لكن القبول كان يتحول إلى رضا حينما تنجح النخبة فى إنجاز المهام الأخرى شريطة ألا يكون ذلك على حساب الوظيفتين الأساسيتين.

والقبول المتضمن فى مفهوم الشرعية لا يعنى الرضا المطلق، حتى وإن تحقق فى بعض الفترات مثل فترة حكم أحمد بن طولون، وإنما يعنى القبول فى ضوء البدائل المتاحة والتكلفة المحتملة لتغيير الأشخاص أو الأفكار أو المؤسسات.

وبمطالعة سريعة لتاريخ مصر من عصر الأسرتين الأولى والثانية فى الألفية الثالثة قبل الميلاد وحتى يومنا هذا نجد أنفسنا بين نمطين من الشرعية يمكن تسميتهما:

أولا: الشرعية التقليدية، وهى التى تقوم على السمع والطاعة لأسباب شرعية دينية ــ أو أسرية وراثية. ثانيا: شرعية الحفاظ على استقلال ووحدة الدولة. ويبقى أن تتحول مصر إلى النمط الثالث من الشرعية، وهو نمط الشرعية الديمقراطية الذى يتطلب من كل مصرى أن يكون عنده صوت انتخابى يمارس من خلاله حقه لأنه لو صمت فسيعنى هذا أن السكوت علامة الرضا.

والنمط الأول هو الشرعية التقليدية القائمة على السمع والطاعة فعلاقة الفرد بالإله تقتضى طاعة الحاكم والذى هو عادة ما ينتمى إلى أسرة ذات خصائص استثنائية يتوارث أعضاؤها الحكم بينهم. فالفرعون كان يحكم مصر باسم الآلهة التى أعطته الحق الإلهى على سياسة الرعية وإدارة اقتصاد الدولة الزراعى والتجارى، وعليه فكان جزءا من الوظيفة الأيديولوجية للدولة المصرية القديمة التأكيد على رضا الآلهة وعلى الرابط المقدس بين الإله وبين الأسرة الحاكمة، وهكذا أقيمت المعابد فى منف وفى عواصم الأقاليم، وأقيمت المقابر الملكية على هيئة تليق بعظمة الملك الإله الذى هو رابطة الوصل بين فلاحى مصر وبين الآلهة. وتشير المعابد إلى أن ظهور الملك كان يوصف بأن «الملك قد أشرق» وأنه أطل كالشمس من أفقه وأن موته كان يعنى التحاقه بركب الآلهة الكامنة خلف قرص الشمس. بل إن صعود وهبوط الأسر الفرعونية كان يرتبط ضمنا بالنجاح فى إدارة الصراع الدينى بين الملك وكهنته من ناحية وأمراء الأقاليم وكهنتهم من ناحية أخرى. وكان المواطن المصرى الغائب الحاضر فى هذه الصراعات فإن انتصر كهنة آمون فى طيبة تبعهم، وإن انتصر كهنة حزب التوحيد (آتون) فى تل العمارنة تبعهم. وقد أراح المصرى نفسه وسار على نهج قيل عن سلاطين المماليك لاحقا: «أصلح الله من أصبح». أى أصلح الله من أصبح حاكما.

وقد تعلم غزاة مصر أهمية هذا المصدر الدينى للشرعية، فتوجه الإسكندر الأكبر إلى معبد الإله بتاح فى منف ليتوجه كبير كهنة هذا الإله. وفعلها بطليموس الأول أيضا عندما لقب نفسه باسم إله مصر القديم ونسب نفسه إلى آمون. وكان سوء تقدير الرومان لأهمية هذا المصدر للشرعية سببا فى توترات عظيمة شهدتها مصر بسبب إصرار الرومان على إجبار المصريين على تبنى المسيحية الكاثوليكية. وكان عمرو بن العاص شديد الحنكة فى تجنب حدوث مواجهات مع أقباط مصر بأن احترم معتقداتهم وضمن لهم حق العبادة وعدالة فى توزيع الأعباء المالية، مع شرط أساسى وهو الدعاء للخليفة فى الصلاة ووجوب الطاعة له. وهو النهج الذى سار عليه معظم الولاة حتى ضعفت الخلافة وبدأ يستأثر بعض الولاة مثل أحمد بن طولون بحكم مصر فأصبح يدعى للخليفة وله معه، باعتبارهما معا يتوليان أمر مصر وتجب لهما الطاعة. وظل الأساس الدينى لشرعية الحكم هو الأساس الأصيل لكن كانت شرعية الإنجاز تحول القبول إلى رضا.

ولكن، لماذا نجح الولاة والخلفاء فى استخدام الدين الإسلامى كمصدر للشرعية؟ لم يختلف الأمر فى ذلك عن الأديان السابقة عليه بما فى ذلك الفرعونية القديمة. والحقيقة، أن هذا سؤال شديد التعقيد، لكن لا شك أن قضية محاربة الاستبداد لم تكن من أولويات الفقه الإسلامى فى مواجهة أولويات أخرى مثل الحفاظ على وحدة الأمة فى مواجهة الفتن السياسية، وتطبيق الحدود الشرعية، ومواجهة المستعمر الأجنبى. وهو ما سيكون على علماء الدين الإسلامى المعاصرين أن يتداركوه، كما أوضحت فى مقال سابق بالخروج من دائرة الشورى المعلمة إلى الشورى الملزمة، وما يستتبعه ذلك من وضع قيمة الحرية فى دائرة الواجب الفرض وليس فى دائرة الجائز أو المباح. فإذا كان القرآن شدد على أهمية العدل، فقد استقر عند بعض من الفقهاء أن العدل لا يتناقض مع الاستبداد فقال الإمام محمد عبده «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل». وفى النظريات السياسية المعاصرة، تبدو العبارة متناقضة وكأنك تقول إنما ينهض بالشرق ميت حى، أو بخيل كريم.

هذا عن المصدر الأول لشرعية الحكم، ماذا عن المصدر التاريخى الثانى؟ المصدر الثانى لشرعية الحكم فى تاريخ مصر الطويل يعود إلى الوظيفة الأمنية والعسكرية. فتاريخ مصر يشير إلى عدد هائل من تجارب احتلال مصر وفقدانها لوحدتها وجهود المصريين لتحقيق استقلالهم. ويكفى أن أشير إلى أن الرئيس عبدالناصر هو أول رئيس مصرى الجنسية يستقر له حكم مصر منذ نحو 2500 سنة تناوب على حكم مصر فيها جميع الغزاة من الأقاليم المحيطة بها من الجهات الأربع، بدءا من النوبيين فى الأسرة الخامسة والعشرين مرورا بقبائل الصحراء الليبية ثم الآشوريين والإغريق، ثم الفرس (200 سنة) ثم اليونانين مع الإسكندر الأكبر وهو ما قاد إلى دخول مصر عصر البطالمة (300 سنة) ومن بعده الرومان بعد كر وفر مع الفرس (700 سنة)، ثم الفتح الإسلامى (1400 سنة) بين ولاة كلهم معينون من المدينة (دولة الخلافة لمدة 40 سنة) أو الكوفة على عهد خلافة سيدنا على القصيرة ودمشق (الدولة الأموية، أقل من 100 سنة) أو بغداد وسامراء (الدولة العباسية الأولى 500 سنة) أو الأستانة (الدولة العثمانية 400 سنة) أو يؤسس الولاة دولا مستقلة عن دولة الخلافة الأم، مثل الدولة الطولونية ومن بعدها الإخشيدية (كلتاهما مجتمعتان 100 سنة) ثم الفاطمية (250 سنة) ثم الأيوبية ــ المملوكية (نحو 350 سنة) ثم العثمانية (نحو 300 سنة) ثم الحملة الفرنسية (3 سنوات)، وهى مقدمة دخول مصر عصر الدولة الحديثة على يد أسرة محمد على (نحو 150 سنة) التى حكمت حتى قيام الثورة التى ردت مصر إلى المصريين من الاحتلال البريطانى (نحو 70 سنة).

وهو ما يفسر جزئيا الانبهار الشديد بعبدالناصر الذى حقق الاستقلال مرتين خلال سنتين (الجلاء ثم العدوان الثلاثى) وهو ما يفسر كذلك شرعية الرئيس السادات الذى قال للرجال «عدوا القنال» وهو ما يفسر كذلك السهولة النسبية فى انتقال السلطة إلى الرئيس مبارك باعتباره «صاحب أول ضربة جوية فتحت باب الحرية»، وهو ما يفسر أيضا حالة التراخى التى يعيشها المصريون فى آخر عشرين سنة بحكم أن «سينا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى عيد»، حتى وإن كان هناك خلل فى وظائف الدولة الأربع الأخرى. وهو ما سيفسر كذلك عدم اليقين بشأن قضية انتقال السلطة من الرئيس مبارك لأى شخص يأتى بعده لأن الشرعية الدينية غير قائمة حتى إن رجالات المؤسسة الدينية أنفسهم يبحثون عن شرعية، فضلا عن أن التقاليد الجمهورية تضع قيودا على الانتقالات الأسرية، كما أن الأرض ليست محتلة ووحدة الدولة ليست مهددة حتى تعطى الوظيفة العسكرية الأمنية أولوية على ما عداها. وهو ما يجعل المصدر الأساسى المتاح للشرعية هو المصدر الثالث الذى لم تعرفه مصر إلا جزئيا فى العشرين سنة من 1923 حتى 1952 لكن فساد الملك وتدخل الإنجليز نالتا منه وهو الديمقراطية التعاقدية وهو ما يتجلى فى أفضل تجلياته يوم الانتخاب، حيث يتحول المحكوم إلى حاكم ويتحول الحاكم إلى محكوم بحيث تتلاقى إرادات المحكومين فى الاختيار بين البرامج والأشخاص القادرين على الاضطلاع بمهام وظائف الدولة الخمسة المختلفة. وعلى هذا فإن مصر بحاجة لانطلاقة جديدة نحو مصدر جديد للشرعية المشروطة باحترام أسس وقواعد الدولة الديمقراطية.

وهو ما يقتضى من كل مصرى أن يفكر بمنطق المواطن صاحب الوطن والشريك فى مصيره وليس ساكن الشقة المفروشة.. وإن لم نشارك، فقد وضعنا أيدينا على أول سبب فى إجابة سؤال: «لماذا نتخلف ويتقدم غيرنا؟».

معتز بالله عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وميشجان، ويدير حاليا وحدة دراسات الإسلام والشرق الأوسط في جامعة ميشجان المركزية في الولايات المتحدة. حصل على ماجستير العلوم السياسية من جامعة القاهرة وماجستير الاقتصاد ودرجة الدكتوراه في العلوم السياسية من الولايات المتحدة. كما عمل في عدد من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة ومصر، له ثمانية كتب والعديد من المقالات الأكاديمية منشورة باللغتين الإنجليزية والعربية.
التعليقات