العقدة الروسية - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العقدة الروسية

نشر فى : السبت 9 مايو 2015 - 9:35 ص | آخر تحديث : السبت 9 مايو 2015 - 9:35 ص

فى اللعب مع الأطراف الدولية الكبرى لا تجوز الأحاديث المبهمة أو التوقف فى منتصف الطرق.

بعد (٣٠) يونيو كان الطريق إلى موسكو شبه إجبارى.

لم يكن هناك طريق آخر لتخفيف الضغوط الغربية الهائلة على نظام الحكم الجديد.

باستثناء الدعم المالى والدبلوماسى من دول الخليج الرئيسية بدت مصر تحت حصار شبه محكم، الاتحاد الأوروبى يهدد بعقوبات اقتصادية والاتحاد الأفريقى يعلق أنشطتها والولايات المتحدة تقود أوركسترا الضغوط.

فُتحت أبواب الكرملين أمام الرسائل المصرية وجرت تفاهمات استراتيجية سرعان ما انتقلت إلى العلن.

باليقين فإن الانفتاح على موسكو ساعد على رفع الثقة العامة فى مواجهة الضغوط أيا كانت ضراوتها ووقف صفقات السلاح، أيا كانت أحجامها.

من نتائجه أن الغرب أعاد النظر بأسرع من أى توقع فى طريقة تعامله مع المستجدات المصرية.

خسارة مصر لا تحتمل فى أية استراتيجية غربية بأكثر أقاليم العالم حساسية وخطورة.

لم تكن روسيا مستعدة وفق مصالحها الاستراتيجية أن تهدر فرصة الرهان مجددا على مصر.

أبدت استعدادا لمد القوات المصرية بأحدث ما تحتويه ترسانتها العسكرية من طائرات «ميج ٢٩» وصواريخ «إس ٣٠٠» وانفتحت على أى تعاون اقتصادى محتمل يستعيد روح الستينيات فى بناء القلاع الصناعية ووقعت على عقود لبناء محطات نووية للاستخدامات السلمية.

فى زيارة الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» إلى القاهرة فبراير الماضى تجددت أحاديث العلاقات الاستراتيجية على نحو لافت قبل أن يخفت كل حديث.

الظاهرة نفسها تكررت فى العلاقات مع بكين، فقد توقف القادة الصينيون باهتمام بالغ أمام ما أعلنه الرئيس «عبدالفتاح السيسى» من توجه لبناء شراكة استراتيجية، قبل أن يخيم الصمت كاملا.

بين النوايا والسياسات فجوة عميقة تأخذ من الرهانات على أى شراكة دولية مع مصر قوة دفعها وصدقيتها.

الدول الكبرى ليست مولات تذهب إليها تتسوق ما تشاء من أسلحة وتقنيات ومصالح اقتصادية قبل أن تذهب إلى حال سبيلك.

إذا لم تكن هناك رؤية على قدر من الوضوح تحدد أين تقف وماذا تريده، وتدرك بذات القدر ما الذى يريده الشركاء الآخرون فإن أى رهانات متبادلة سوف تتقوض سريعا.

الانفتاح على المراكز الدولية الكبرى من علامات قوة أية دولة وتنويع مصادر التسليح علامة قوة أخرى.

تحمست باريس لتسليح مصر بطائرات «رافال» بأثر الحديث عن صفقات مماثلة مع موسكو وأعادت الإدارة الأمريكية معونتها العسكرية بالأثر ذاته.

قبل زيارة الرئيس المصرى مباشرة إلى باريس، قال السفير الفرنسى فى القاهرة على مائدة غداء ضمته إلى مصريين وفرنسيين: «سوف نستقبله فى الإليزيه بأفضل مما استقبله بوتين فى سوتشى».

فى الترحيب الروسى رهان على الرجل الجديد فى مصر، وقد كان لافتا أن اجتماعا بين «السيسى» و«بوتين» استمر لعشر ساعات كاملة تخللتها جولات مطولة.

وفى الترحيب الفرنسى تنافس طبيعى على اكتساب المصالح الاستراتيجية امتد منطقه إلى الحواضر الأوروبية الأخرى.

لم يكن ممكنا أن تتحلحل العلاقات مع الغرب وعواصمه الكبرى، وآخرها ألمانيا، الأكثر تحفظا على تحولات (٣٠) يونيو، ما لم تظهر موسكو فى مقدمة المشهد كبديل محتمل على مستوى استراتيجى.

أسوأ خيار ممكن أن تتراجع مصر عما أقدمت عليه من انفتاح على عالمها بغير الطريقة التى استقرت لأكثر من أربعين سنة وأفضت إلى تهميش أدوارها بصورة مزرية.

فى منتصف الطريق بين النوايا والسياسات علت الشكوك الروسية فى مدى الالتزام المصرى بأى معنى جدى للشراكة الاستراتيجية.

وجدت الشكوك طريقها إلى ما يشبه الإفصاح على لسان مسئولين كبار.

لم يعد ذلك خافيا ولا سرا.

معنى الشكوك أن القاهرة وازنت الضغوط الغربية بالورقة الروسية قبل أن تعود السياسات إلى سابق عهدها.

لا توجد سياسة خارجية منفتحة بثقة على عالمها إذا كانت تعانى خللا فى خياراتها الرئيسية.

هل نبنى دولة حديثة أم نعيد إنتاج الماضى بصورة جديدة؟

ما النموذج الذى نحتذيه وما الأفكار الجوهرية التى نتبناها؟

إذا كان التوجه هو الانفتاح على المراكز الدولية المتعددة، مع موسكو وبكين دون قطيعة مع واشنطن، فهل من الممكن تأسيس هذا النموذج بلا رجال يؤمنون به ويعملون وفق مقتضياته؟

هناك أزمة مصرية يعرفها العالم كله أنها تفتقد الآن بفداحة إلى طبقة رجال دولة قادرة وكفؤة، ومن بين علامات الأزمة التغييرات المتكررة فى الأجهزة الحكومية والدبلوماسية والأمنية دون أن يصحبها تحسن فى مستوى الأداء العام.

بغير دليل عمل فالأداء لن يتحسن مهما كانت الجهود المبذولة، وهذه مسألة خيارات وتصورات.
هناك قصة ترمز لأزمة هذا البلد فى حسم توجهاته العامة.

عند استقبال الرئيس الروسى فى دار الأوبرا المصرية عرض فيلم تسجيلى مدته سبع دقائق عن العلاقات بين البلدين، تضمن مشاهد للقاءات تاريخية، «جمال عبدالناصر» و«نيكيتا خروتشوف»، «أنور السادات» و«ليونيد بريجينف»، «السيسى» و«بوتين». غير أنه أضيفت فى اللحظات الأخيرة مشاهد لـ«حسنى مبارك» و«بوريس يلتسين».

القضية هنا ليست فى المشاهد المضافة بقدر ما هى الرؤية التى حكمت من أصدر قرار إضافتها.
لماذا كان حريصا إلى هذا الحد على حضور صور «مبارك»؟

ورغم أن «السادات» هو من أصدر قرار طرد الخبراء السوفيت من مصر، عشية حرب أكتوبر التى خاضتها القوات المسلحة المصرية بسلاح سوفيتى، إلا أن هناك معنى لإدراج صورته مع نظيره السوفيتى هو ذاته معنى الحرب والانتصار فيها.

ما معنى «مبارك» و«يلتسين» فى أى رهان مستقبلى على العلاقات المصرية الروسية، فالرئيسان السابقان يرمزان إلى تدهور مروع فى البلدين وكلاهما لم يدرك قيمة البلد الذى يحكمه.

الأول، همش الدور المصرى فى محيطه وأحال البلد كله إلى «خرابة» بتعبيره هو نفسه.. والثانى، كاد يوصل روسيا إلى حافة الإفلاس والفوضى وحكم عصابات المافيا.

ربما تساءل الروس: ما الذى يريده المصريون؟

الأهمية الحقيقية لزيارة الرئيس «السيسى» إلى موسكو هنا بالضبط.

الزيارة بمناسبتها احتفالية روسية خالصة والزيارة بتوقيتها إيجابية بالنظر إلى منزلق التساؤلات عن حقيقة التوجهات المصرية.

الاحتفال الروسى بالذكرى السبعين للانتصار على القوات النازية فى الحرب العالمية الثانية يستهدف تأكيد هيبة السلاح، وأن موسكو لاعب رئيسى لا يمكن لأحد أن يهمشه على خرائط العالم.

والحضور المصرى يستهدف بث شىء من تجديد الثقة فى الرهانات المتبادلة لكنها تحتاج إلى نفس طويل وسياسات مستقرة.

هذا ما تفتقده مصر بفداحة، فبعض الذين يتولون ملفات مستقبلها ينتمون إلى الماضى.

لكل علاقة دولية رهانات على المستقبل وعقد فى التاريخ.

العقدة الروسية أن تكرر مصر مرة أخرى صدمة السبعينيات، أن تنتصر بسلاحها قبل أن تسلم أوراق اللعبة كلها للولايات المتحدة.