المجتمع الدولي حكمًا بين نتنياهو ودى كليرك - بسمة قضماني - بوابة الشروق
الخميس 23 مايو 2024 10:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المجتمع الدولي حكمًا بين نتنياهو ودى كليرك

نشر فى : الأربعاء 10 فبراير 2010 - 10:47 ص | آخر تحديث : الأربعاء 10 فبراير 2010 - 10:47 ص

 احتفلت جنوب أفريقيا هذا الأسبوع بالعيد العشرين لخطاب فريديريك دى كليرك الذى أعلن فيه نهاية نظام الفصل العنصري «الأبارتهايد»، وهو عيد لا يحتفل به الجنوب أفريقيون وحدهم بل القارة الأفريقية والعالم أجمع لأنه يمثل منعطفا مهما فى تاريخ الإنسانية.

لقد عمل دى كليرك على القيام بإخراج متكامل لتهيئة الظروف المثلى لخطابه إذ كان يريد أن يفاجئ به الرأى العام العالمى والمحلى ويثير أكبر دهشة ممكنة. وفى هذا الإطار، قرر تأجيل إطلاق سراح نلسون مانديلا لبضعة أيام كى لا يخطف منه النجومية ويضعف من أهمية خطابه الذى عمل على تحضيره على مدى سنة كاملة وذلك فى سرية مطلقة.

وقد أعلن فيه عن إزالة نظام التمييز العنصرى، الذى أثار احتجاجات الملايين من المتظاهرين فى أكبر مدن العالم بسبب عنفه وظلمه، من خلال مجموعة من الإجراءات غير المتوقعة والتى تبين سعيه إلى اكتساب موقع يعطيه امتيازا أخلاقيا.. وكان كل من سبقوه فى الحكم يستخدمون مناسبة خطاب تسلمهم لمهامهم لترسيخ ومأسسة قوانين التمييز العنصرى التى تكرّس فصل البيض عن السود فى مجالين حيوين منعزلين: البيض فى الأراضى الخصبة والسود فى بيوت فقيرة وأراض مطوقة.

لا شىء فى تاريخ وخلفية دى كليرك الأفركانر كان يشير إلى أنه يستعد لقلب كل هذا النظام، فهو ابن هذا النظام وعضو فى الحزب الوطنى ومعرف ضمنا بأنه من المحافظين. وحتى أنه عرف عنه محاولته تعطيل كل الإصلاحات التى كان يطرحها الرئيس بيتر بوتا. لم يتوقع أحد أى جديد أو أى خطوة جريئة يمكن أن ترد فى خطابه بسبب الاعتقاد بأن دى كليرك سجين النظام العنصرى ويخشى إضعاف قاعدته الانتخابية بسبب تسرّب أعضاء حزبه إلى الحزب المحافظ.

ولقد سبق له ورفض الطريق الأسهل من خلال التفكيك التدريجى للنظام لأنه مقتنع بأن العالم لن يصدق جدية هذه الخطوة وسيعتبرها مناورة جديدة على غرار ما سبقها لعدة عقود. وكان الوقت يلعب ضده، وكان متيقنا من ضرورة الخروج بكامل المقترح مستندا إلى نصيحة صديق قال له: عندما تقطع ذيل الكلب، من الأفضل أن تقطعه بضربة واحدة.

وبينما كان وزير خارجيته يجول عواصم العالم ساعيا لإصلاح صورة النظام، كان دى كليرك يعمل على تهيئة الأجواء السياسية الداخلية لضمان نجاح خطته والتصدى للمعارضين لها القادرين على تعطيلها، بل حتى، على القضاء عليه سياسيا. ولقد استدعى لهذا الغرض كل أعضاء حكومته إلى بيته الريفى، حيث كان يعى وجود انقسامات داخل الحزب ومعارضة الرئيس بوتا لمثل هذه الخطوة، فحرص على تأمين دعم وزرائه من خلال إقناعهم كل على حدى.

ثم قام بتشكيل حكومة تضم عددا من أرباب الصناعة الكبار للمساعدة فى التعامل مع الأزمة الاقتصادية نتيجة العقوبات الدولية والديون المتراكمة. وفى الوقت نفسه، قرر أخذ إجراء آخر شديد الخطورة تمثل فى إطلاق سراح السجناء السياسيين. فخرج كل قادة المؤتمر الوطنى الإفريقى إلى لوزاكا لاستئناف نشاطهم السياسى.

واحتفظ بمانديلا ليتأكد من أن الآخرين المحررين قد التزموا مواقف مسئولة ولم يعودوا إلى استخدام العنف، وقرر حينئذ بأن الوقت قد حان لإطلاق سراح نيلسون مانديلا. وقد وصل الرجلان إلى قناعة أنه لا بديل عن التفاوض. فبالنسبة لمانديلا، كان من العبث الاستمرار بالمقاومة وخسارة أرواح بالآلاف، بينما خلص دى كليرك إلى أنه من المستحيل الانتصار بالوسائل الأمنية والعسكرية وأن التفاوض مع العدو أضحى ضرورة ملحّة قبل أن ينهار الاقتصاد بشكل كامل.

هل كان الاقتصاد فعلا على وشك الانهيار؟ فى الواقع، كان هناك ازدهار مستمر والعقوبات لم تسبب ضررا مأساويا، بل كان معدل النمو عاليا كما هو الحال فى إسرائيل التى تتباهى اليوم بمعدل نمو 5 فى المئة رغم الأزمة. ولكن كلما ازداد النشاط الاقتصادى، ازدادت الحاجة إلى إسكان العمال السود قرب المدن الصناعية حتى أصبحوا يشكلون أحزمة من الغضب تحاصر الأقلية البيضاء.

أما التأثير الفعلى للعقوبات الاقتصادية فكان هو الوقع المعنوى والنفسى من خلال الشعور بالعزلة والنفى من المجتمع الدولى، خاصة بالنسبة لوسط قطاع الأعمال. فبالنسبة لرجال الأعمال، كانت المعاناة أكبر من فئات المجتمع الأبيض الأخرى. لأن انسحاب المستثمرين جعل رجال الأعمال الجنوب إفريقيين يفقدون شركاءهم فى الغرب.

فرجال الأعمال الغربيون الذين تربطهم بهم روابط اجتماعية وثقافية يبتعدون عن العمل والاستثمار فى بلادهم. وكما اعترف دى كليرك بعد سنوات، فالمقاطعة الأكاديمية ربما كان لها الأثر الأكبر فى تعزيز القناعة لدى القيادة البيضاء على انسداد الأفق وأن لا مجال لكى يجد الأكاديميون الجنوب أفريقيين أبواب المختبرات والجامعات الكبرى فى الغرب مفتوحة أمامهم.

بمناسبة هذا العيد، يجد الإنسان نفسه يحلم: فهل يقف يوما رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ويلقى خطابا يقول فيه كما فعل دى كليرك:

«أعلن نهاية الاحتلال الإسرائيلى وانسحاب الجيش إلى حدود 4 يونيو1967، وإخلاء كل المستوطنات اليهودية فى الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية من سكانها، وأعترف بالدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية وبحق اللاجئين بالعودة كما تنص عليه القرارات الدولية».

فينهض الفلسطينيون والعرب والعالم بأسره للتصفيق له ويشهد له العالم الإسلامى بأنه رجل سلام مما يرمى ببن لادن ومن ماثله من مستغلى القضية الفلسطينية إلى الجحيم ويجرده من الأتباع. فهل يقول نتنياهو يوما كما قال دى كليرك: «نحن اليهود كنا نريد التمسّك بأكبر قدر ممكن من الأراضى لأننا كنا طامعين»، ويعترف كما فعل دى كليرك بأنه «أيقن منذ زمن بأن إسرائيل غارقة فى دوامة عنف لن تستطيع الخروج منها بأى شكل من أشكال النصر، لذا قررت قلب المنطق والقيام بتغيير جذرى لمواقفها»..

هل يستيقظ نتنياهو كما دى كليرك فى صبيحة اليوم المحدد للإعلان عن قراره حاملا الإحساس بأنه يواكب المصير الذى ستؤول إليه البلاد، وأن إسرائيل لن تكون هى نفسها بعد هذا اليوم، ولكنه يدرك بأن قراره صحيح ويأتى فى الوقت المناسب، فيقول للفلسطينيين والعرب: «اجتازوا هذه البوابة المفتوحة واجلسوا معنا لنبنى مستقبلا مشتركا».

فى خطابه الذى دام 30 دقيقة فقط، فكك دى كليرك كامل هيكل النظام العنصرى المنبوذ عالميا. وبإمكان نتنياهو أن يقوم بنفس الخطوة فى خطاب مشابه ليقلب صورة المنطقة راسا على عقب.. ولكن السؤال هنا هو: ما الذى يمكن أن يدفع نتنياهو نحو السير فى هذا الاتجاه؟

دى كليرك، عنصرى النشأة، لم يكن رجلا ذا ضمير واع وقلب حساس وإنسانية جياشة. وهو لم يتخذ قرارات مصيرية بالنسبة لشعبه لأنه أصبح يتعاطف مع أحوال الأكثرية المقموعة. لقد حصل ذلك لأن المجموعة الدولية تضامنت واتخذت إجراءات جدية بدأت تضرّ بمصالح النخبة الحاكمة ونجحت فى إشعارها بالعزلة وبانسداد الأفق أمامها وإقناعها بأن لا مستقبل آمن لها إذا لم تعترف بأن سياستها ظالمة وغير مقبولة فى عالم ينادى باحترام الإنسان ومنح الشعوب حقوقها المشروعة.

دى كليرك إذا لم يكتشف فى ذلك الوقت أن التمييز العنصري ظالم، بل كان يعى ذلك تماما، ولكنه قرر بعقلانية كاملة أن الاستمرار فى هذا النهج قد يهدد مستقبل شعبه، ولهذا اتخذ القرار الصحيح وأصبح رجل السلام الذى نال جائزة نوبل. فالمجتمع الدولى بعقوباته وبموقفه الصلب، هو الذى حوّله إلى رجل سلام. ومع مرور السنين، أصبح دى كليرك يروى حكاية نهاية نظام الأبارتهايد وكأنها نتيجة بعد نظره الاستثنائي وأخلاقياته المثالية.

بينما يمتنع قادة المؤتمر الوطنى الأفريقى، بقرار من مانديلا، عن تصحيح هذه الرواية ليحافظوا على أسطورة المصالحة التاريخية بين فئتى الشعب حرصا على بناء مستقبل مشترك، وإدراكا كاملا لمصالح الأكثرية الكامنة فى الاستفادة من البنية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية التى أسست لها الأقلية البيضاء. فالسلام لم يتم بناؤه على العواطف وعلى المحبة، بل قام على أساس حسابات سليمة للمصالح الحقيقة للطرفين.

ولكن إدراك هذه المصالح نتج عن موقف خارجى حازم التزمت به الحكومات والشركات والجامعات فى العالم كله، مما جعل التكلفة السياسية للاستمرار فى نهج الأبارتهايد تتفاقم يوما بعد يوم إلى أن تجاوزت الثمن السياسى الذى تتوقعه القيادة السياسية نتيجة المعارضة المحتملة لقرارها من قبل المتشددين فى الداخل.

لن يتحول نتياهو ليصبح رجل سلام ما لم تقف القوى الخارجية المؤثرة من حكومات وقطاعات اقتصادية وأكاديمية، موقفا حاسما من سياسات إسرائيل واستمرار احتلال الأراضى العربية حتى يقتنع الرأى العام الإسرائيلي أن الأفق مسدود، وأن مخاطر التغيير الجذري فى سياسة البلاد والخروج من عقلية الفيتو وتفكيك بنية الاحتلال قد تكون أقل تكلفة من الاستمرار فى مواجهة الغضب المتزايد المحيط به.

بسمة قضماني  مدير مبادرة الإصلاح العربي
التعليقات