أين نحن من الزلزال التركى؟
اختلفت تماما موازين القوى السياسية بعد الانتخابات النيابية التى خسر فيها حزب «العدالة والتنمية» أغلبيته البرلمانية.
تقوضت فرص زعيمه «رجب طيب أردوجان» فى تعديل الدستور للانتقال إلى نظام رئاسى يمسك بمقاليده كـ«سلطان عثمانى» كلمته كالمقادير تسمع ولا ترد.
مشروعه السياسى تصدع ودوره الإقليمى يقارب الانهيار.
غير أن القصة لم تكتمل وتوابع الزلزال أهم من الزلزال نفسه.
فى هذه اللحظة توشك تركيا أن تطوى صفحة من تاريخها الحديث امتدت لثلاثة عشر عاما متصلة تحت عباءة «أردوجان» دون أن تتبدى فى الأفق صورة الصفحة التالية.
وفق الدستور التركى فهناك مهلة (٤٥) يوما لتشكيل حكومة جديدة، ائتلافية بالضرورة، غير أن مواريث العداء تجعل من مثل هذا الاحتمال ضئيلا للغاية لكنه غير مستبعد نهائيا.
يصعب على خصوم «العدالة والتنمية» أن يمنحوه قبلة حياة أو أن يلقوا إليه بطوق إنقاذ ليستمر فى رئاسة الحكومة.
يصعب فى الوقت نفسه أن يتفق منافسوه على ائتلاف حكومى جديد يقود تركيا إلى مرحلة مختلفة.
رغم ما يجمع أحزاب «الشعب الجمهورى» اليسارى الأتاتوركى و«الشعوب الديمقراطية» اليسارى الكردى و«العمل القومى» اليمينى المحافظ من كراهية مفرطة لـ«العدالة والتنمية» إلا أن تناقضاتهم تكاد تحجب فرصة الإمساك بمقاليد السلطة رغم ما لديهم معا من أغلبية برلمانية مريحة.
فى مثل هذه الأوضاع كل شىء مفتوح على سيناريوهات معقدة أرجحها الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة.
«أردوجان» يطلبها فرصة مستأنفة لاستعادة ما طمح إليه ولم ينله.
قد يراهن على المخاوف المحتملة من عودة حالة عدم الاستقرار السياسى التى عانتها تركيا فى حقبتى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى.
ويمتد رهانه إلى قلق المؤشرات الاقتصادية التى أعقبت الزلزال، فقد هبطت بورصة اسطنبول (٨٪) وخسرت العملة الوطنية الليرة (٤٪) من قيمتها إزاء الدولار واليورو.
لأسباب أخرى يطلب خصومه فرصة مستأنفة أخرى للإجهاز عليه، فقد ترنح السلطان العثمانى والصحافة المعارضة التى استباحها بادلته اللغة ذاتها.
فى كل الأحوال اللعبة السياسية تخضع لقواعد تحترم.
وهذه شهادة للديمقراطية التركية.
مشكلة «أرودجان» أنه لم يكن ديمقراطيا وبدا ديكتاتورا مدنيا على صورة أسلافه العسكريين.
بالمقاييس الطبيعية نسبة الـ(٤٠.٨٪) التى حازها حزب «أردوجان» لا تمثل انكسارا كبيرا، فمن شأن أية انتخابات ديمقراطية أن تشهد صعودا وهبوطا فى موازين القوى السياسية، غير أن ما هو طبيعى استحال إلى شىء آخر تماما فى الروحية العامة.
الرجل الذى بسط هيمنته على الحياة السياسية التركية بلا منازع بات عبئا عليها لا يحتمل.
تجربة الحكم الطويلة قوضت إيجابيات سنواته الأولى التى وضعت الاقتصاد التركى فى مرتبة متقدمة على المستويين الأوروبى والعالمى.
انكشف مشروعه وفقد اتزانه، غلبته عجرفته كأنه الحاكم بأمره، اصطدم بالقضاء لتطويعه لمقتضى ما يطلب وبالغ فى إهانة الجيش، ضيق على الحريات الصحفية بخشونة وأضفى حمايته على فساد رجاله وبعض أفراد أسرته، تورط فى أزمات الإقليم خاصة فى سوريا ومصر بصورة أساءت إلى صورة الرئاسة التركية التى بدت عصبية بأكثر مما تحتمله مصالح بلادها كما لو كانت فرعا من تنظيم الإخوان المسلمين.
لهذه الأسباب المتداخلة غلبت على التصويت الانتخابى نزعة عقابية.
تجلى التصويت العقابى فى توجه قطاع يعتد به لمنح الحزب الكردى ما يحتاجه لتجاوز عتبة الـ(١٠٪) حتى يتسنى له دخول البرلمان وكسر أغلبية «أردوجان».
هذا الحزب الفائز الأول فى الانتخابات التركية.
دخوله البرلمان بذات عدد نواب حزب «العمل القومى» (٨٨ مقعدا) يغير راديكاليا من المعادلات السياسية.
هو رمانة الميزان السياسى، يمكنه أن يمنح «العدالة والتنمية» فرصة تشكيل حكومة ائتلافية أو أن يقايض الأطراف السياسية الأخرى بالمطالب الكردية.
فى الأثر الإقليمى نحن أمام زلزال كبير.
بروز الأكراد على مقدمة المشهد السياسى التركى له انعكاساته وتداعياته.
بأقرب الأرقام إلى الدقة فإن أكراد تركيا هم نصف أعدادهم فى الإقليم كله.
دمج الأكراد فى اللعبة السياسية التركية تطور إيجابى من حيث نفى التمييز على أساس عرقى وفتح الآفاق المغلقة لتسويات سياسية فى بنية الدولة ومستقبلها غير أن الأمر يتجاوز تركيا إلى جوارها.
بمعنى آخر الخطوة الكردية الجديدة لا هى صغيرة فى تركيا ولا هى محدودة فى الإقليم.
كل شىء سوف ينتظر التفاعلات الداخلية وترتيبات ما بعد الحرب على الإرهاب فى المشرق العربى المجاور.
فى الاحتمالات جميعها من المؤكد ارتفاع منسوب التنسيق والتخطيط والعمل المشترك بين الجماعات الكردية فى تركيا والعراق وسوريا وإيران.
وهذه نقطة تحول جوهرية فى حسابات المنطقة وسيناريوهات مستقبلها.
رغم الأسباب الداخلية التى أفضت إلى انكسار «أردوجان» إلا أنه تداخلت معها أسباب إقليمية لا يمكن التهوين من شأنها.
لم يكن مريحا لقطاعات متزايدة من الرأى العام التركى تورط بلادها فى أزمات الإقليم بأكثر مما تقتضيه مصالحها.
دخل «أردوجان» طرفا رئيسيا فى الحرب الإقليمية بالوكالة فى سوريا، فتح الحدود لمرور جهاديين ومول وسلح جماعات تنتسب مباشرة إلى «القاعدة» وهناك اتهامات غربية معلنة أنه على صلة بتنظيم الدولة «داعش».
رغم النفى التركى فإن أحدا لا يصدق.
بالأرقام الرسمية: نحو ثلاثة آلاف تركى يميلون إلى التنظيم المتطرف ومرشحون للانضمام إليه.
وهذه كارثة سوف تدفع تركيا ثمنها غاليا من أمنها الداخلى، فالذين يلعبون بالنار يكتون بها.
بالقدر نفسه تورط «أردوجان» فى الصراع الداخلى المصرى، انحاز إلى طرف خسر صراع السلطة والاتهامات تلاحقه بالضلوع فى تهريب سلاح لجماعات متطرفة عبر الحدود الليبية غير أنه لا توجد أدلة يقينية عليها.
عندما خسر رهانه على دور إقليمى جديد وفق مشروعه «العثمانية الجديدة» تلفت أعصابه السياسية بما لا يليق بزعيم دولة كبيرة فى حجم تركيا.
قبل أسابيع طلب العاهل السعودى «سلمان بن عبدالعزيز» من ضيفه الرئيس الأذربيجانى «إلهام علييف»، وهو يستعد للسفر من الرياض إلى أنقرة مباشرة، أن ينقل لنظيره التركى رسالة مختصرة تطلب أن يخفف من لغته الحادة تجاه الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى».
بحسب ما قاله «علييف» لشخصية دبلوماسية مصرية رفيعة التقته فى العاصمة باكو فإنه فوجئ ببركان غضب ينفجر أمامه دون حساب لأية قواعد تحكم الرسائل بين الدول.
بمعنى مباشر: انكسار «أردوجان» يؤشر إلى مكاسب سياسية مرجحة للحكم الجديد فى مصر وتغيرات محتملة فى الملف السورى.
الذين تحتضنهم اسطنبول من قيادات تنتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين أو معارضين سوريين فى «الائتلاف الوطنى» سوف يجدون أنفسهم أمام مصير غامض.
بوضوح كامل هناك مصلحة مصرية مؤكدة فى فتح صفحة جديدة مع تركيا وخفض التوتر معها أيا كانت حكومتها المقبلة إلى أقصى درجة ممكنة.
غير أنه لابد أن نصارح أنفسنا بالحقائق أيا كانت درجة مرارتها.
ليست هناك سياسة شبه متماسكة فى الاقتراب من تركيا وقواها السياسية التى كسرت هيمنة «أردوجان» ولا لدينا خطاب يقنع ويلهم ويتجاوز ملف الإخوان المسلمين إلى مستقبل العلاقات بين البلدين الكبيرين.
لم نحاور بجدية ولم نستوعب بعمق.
وهذا ما لا يصح أن نتأخر فيه بأكثر مما تأخرنا.