لماذا نقرأ سير العلماء - محمد زهران - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا نقرأ سير العلماء

نشر فى : السبت 11 يونيو 2016 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 11 يونيو 2016 - 9:10 م
استكمالا لمقال الأسبوع الماضى عن فوائد قراءتنا لتاريخ العلوم نتحدث اليوم عن فوائد قراءة سير العلماء، تاريخ العلوم يتحدث عن تطور الأفكار أولا وعن العلماء الذين ساهموا فيها ثانيا، ولكن سير العلماء تتحدث عن العلماء أولا ثم أعمالهم ثانيا، فالجانب الإنسانى أكبر.

هناك نوعان من السير: سير (biography) كُتبت عن هذا العالم أو ذاك وسيرة كتبها العالم ذاته وهي ما نطلق عليها السيرة الذاتية (autobiography)، فما الفارق؟ السيرة الذاتية تعطيك وجهة نظر الشخص نفسه صاحب السيرة في الأمور التي واجهها في حياته، قراءة سيرة كتبها شخص آخر تعطيك وجهات نظر أخرى، وهناك من يكتب عن موقف واحد أو عدة مواقف فقط من حياته، وهذا ما نطلق عليه مذكرة (memoir). لنعد إلى سؤالنا الأساسي بعد هذا الاستطراد: ما أهمية قراءة سير العلماء؟

أولا إذا كانت السيرة الذاتية مكتوبة بعمق وتوضح طريقة تفكير العالم فهي كنز لأنها تعلمك طريقة تفكير وكيفية استخدام هذه الطريقة لأن السيرة الذاتية تشرح طريقة تفكير العالم في حل مشكلة علمية معينة وهذا أفضل بكثير من قراءة كتب جافة عن طرق التفكير، ومن أفضل كتب السير الذاتية التي تشرح طريقة التفكير هي التي كتبها نيكولا تسلا (Nikola Tesla) والمسماة (My Inventions) أو "إختراعاتى"، ويشرح كيف كان يفكر في اختراعاته في مجال الكهربية والمغناطيسية، التيار الكهربي الذي نأخذه من "فيشة" الكهرباء في بيوتنا مثلا، هو تيار متردد، وفكرة التيار المتردد هي فكرة تسلا وهذا يعطيك فكرة عن مدى تأثير اختراعاته على حياتنا.

ثانيا سيرة أي عالم إذا كانت مكتوبة بدقة وبدون مبالغات ستحكي لحظات الفشل في حياة هذا العالم مثلما تحكي لحظات النجاح، مثلا في قصة اكتشاف تركيب الـDNA (اللولب المزدوج) بقلم أحد مكتشفيه وهو جيمس واطسون (James D. Watson) يشرح واطسون الأفكار الخاطئة ولحظات اليأس التي عاشها هو وفرانسيس كريك (Francis Crick) المكتشف الآخر لتركيب الـDNA، قبل أن يصلا إلى الحل الذي كان السبب في سفرهما إلى ستوكهولم لاستلام جائزة نوبل، فلا يوجد على حد علمي من لم يتخبط كثيرا حتى يصل إلى حافة اليأس ولكن تقوده مثابرته إلى الحل، وقصة اكتشاف أينشتاين للنسبية الخاصة (1905) والنسبية العامة (1915) مثال ممتاز على التعب والمثابرة.

ثالثا سيرة أي عالم توضح بجلاء أنه حتى العلماء الكبار مجرد بشر في حياتهم العادية، يخطئون ويجرون وراء الجوائز ويغيرون من بعضهم البعض حتى وإن كانوا حاصلين على أرفع الجوائز العلمية، وهذا أكبر دليل على الشخصية المركبة للإنسان، أنت قد تنبهر بعلم إنسان وفي نفس الوقت تحتقر نفس هذا الإنسان لسقطاته الأخلاقية، لهذا كان العرب قديما يطلقون على الإنسان "مجمع الأضداد"، وحيث أن شخصية أي إنسان مركبة فرأيك في أي إنسان يجب أن يكون مركبا أيضا!

رابعا قراءة سيرة أي عالم تعطي دفعة نفسية قوية حين ترى الصعوبات التي واجهها في حياته، مثلا أينشتاين حتى عندما نشر 17 بحثا منهم النسبية الخاصة، لم يقبل في أية وظيفة أكاديمية في أية جامعة، بل إنه حاول أن يقدم في وظيفة في مدرسة ثانوية ولم يصل حتى إلى القائمة القصيرة!! إيمى نوثر (Emmy Noether) والتي وصفها الرياضي العظيم هلبرت ووصفها أينشتاين بأنها أفضل عالمة رياضية على وجه الأرض لم تتمكن من التدريس في الجامعة إلا متأخرا جدا لأنه لم يكن مسموحا للسيدات بالتدريس في الجامعة في ألمانيا في بدايات القرن العشرين. وتطول قصص المعاناة في سير العلماء ولكن كان عدم اليأس المدفوع بحب العلم والفضول في كشف المجهول هو الدافع الأساسي لعدم اليأس، فهل نيأس نحن إذا واجهتنا الصعاب ونكتفي بالأماني ولعن الظروف؟

مع كل الفوائد التي ذكرناها يجب عليك إن أردت أن تحققها أن تبذل مجهودا في شيئين، أولهما هو عدم الاكتفاء بقراءة قصة مسلية (فالسير هي قصص) ثم تغيب في أحلام اليقظة وترى نفسك حاصلا على الشهرة والجوائز المرموقة! بل يجب عليك أن تبذل مجهودا لاستخراج الكنوز من هذه السير وتطبيقها على نفسك، وهذا صعب وليس مسليا بل يحتاج مجهودا.

الأمر الثاني هو اختيار السير المكتوبة بدقة وليست مجرد مدح في شخصية هذا العالم أو ذاك، إذا وجدت سيرة شخص كلها مدح ونجاحات فاعلم أنها كاذبة (الانتقاص من الحقيقة نوع من الكذب)، من أهم كتاب السير حاليا والتر إيزاكسون (Walter Isaacson) فيمكنك أن تبدأ بالسير التي كتبها، وبالنسبة للسير الذاتية فقد ذكرنا مذكرات نيكولا تسلا وتوجد أيضا أربعة كتب تمثل السيرة الذاتية للفيزيائي العظيم ريتشارد فاينمان من تأليفه أنصح بقرائتها فهو بالإضافة إلى علمه يمتاز بقدرة كبيرة على تبسيط المعلومة بالإضافة إلى روحه الفكاهية، من السير الذاتية أيضا ما كتبه جيمس واطسون وفرانسيس كريك (كل منهما ألف سيرته الذاتية)، ومن أهم السير الذاتية ما كتبه هربرت سايمون (Herbert Seimon) بعنوان (Models of My Life) أو "نماذج من حياتي"، و هربرت سايمون حاصل على نوبل في الاقتصاد وجائزة تيورينج (أرفع الجوائز في مجال الكمبيوتر) في مجال الذكاء الصناعي وحاصل على الدكتوراه الفخرية من هارفارد في القانون! أعتقد أنه من المفيد ولو من باب الفضول قراءة ما كتبه في سيرته خاصة وإن يشرح طريقة تفكيره في حل المشكلات بأسلوب منظم، و ماذا عن سيرة جون باردين (John Bardeen) الحاصل على نوبل في الفيزياء مرتين وإن كان لم يكتب سيرته الذاتة ولكن سيرته من تأليف ليليان هودسون وفيكي دايتش (Lillian Hoddeson and Vicki Daitch) مكتوبة ببراعة شديدة.

أعتقد أن قراءة سير العلماء المكتوبة بدقة وحيادية من أهم وسائل بناء شخصية علمية ومن يدري فقد تستفيد من هذه السير وتكون النتيجة أن يكتب الناس سيرتك أنت في المستقبل!
محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات