التكامل الإقليمى بين السياسة والاقتصاد - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 9:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التكامل الإقليمى بين السياسة والاقتصاد

نشر فى : الأربعاء 11 أغسطس 2010 - 11:01 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 أغسطس 2010 - 11:01 ص
أشرنا فى تناولنا سابقا قضايا إعادة بناء النظام العربى التى ستناقشها قمة عربية الشهر المقبل، إلى تأثر الفكر العربى ــ بل والعالمى ــ بالخطوات التى قطعتها أوروبا على طريق الوحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وأشرنا فى مقالنا «النظام العربى ودروس التجارب الأوروبية» إلى أن محاولة الانتقال من صيغة اتحاد اقتصادى نقدى إلى دولة اتحادية بواسطة دستور أعيدت صياغته أكثر من مرة، حالت دون تحقيقها اعتراضات شعبية، كان أكثرها لفتا للأنظار رفض أيرلندا، وهى من أصغر الأعضاء، لتتوقف عجلة التكامل عند صيغة الاتحاد القائم على محور اقتصادى تطور عبر الزمن وفقا للمنهج الوظيفى ليصل إلى اتحاد نقدى ارتضاه بعض الأطراف وتجنبه الباقون، ويرتبط به محوران، أحدهما داخلى يعنى بالتعاون فى الشئون الأمنية والقضائية، والثانى خارجى يعنى بالعلاقات الخارجية والأمن القومى. غير أن تداعيات الأزمة (أو بالأحرى الأزمات) المالية والاقتصادية التى هزت أركان النظام الاقتصادى الرأسمالى الليبرالى السائد فى معظم دول العالم، كشفت عن ثغرات فى البنيان الاتحادى الأوروبى، وعن شكوك فى استمرار الوحدة النقدية.

وهكذا تعود بعد ستة عقود أو أكثر لمواجهة العلاقة الجدلية بين السياسى والاقتصادى فى مسيرة مجموعة من الدول نحو الوحدة من خلال تكامل إقليمى، وهو أمر وثيق العلاقة بالحوار حول إعادة بناء المنظومة الغربية. وسنحاول فى حدود المساحة المتاحة لنا إثارة بعض الأمور بصورة موجزة: فأولا لنا أن نتساءل حول مغزى حدوث تفاوتات فى الأداء النقدى بين دول تنتمى لاتحاد نقدى، وهل يفضى هذا إلى التخلى عن فكرة الاتحاد النقدى ذاتها؟ وما معنى أن تمضى بعض الدول الأعضاء فى اتحاد اقتصادى نحو الاندماج فى اتحاد نقدى، بينما يعزف عنه شركاؤها فى ذلك الاتحاد؟ وهل يعنى تسلسل الأحداث فى التجمع الأوروبى، الذى اعتصرت فى معالجة قضاياه خيرة العقول الرائدة فى علم الاقتصاد أن قضية الوحدة بين مجموعة على هذا القدر الكبير من التشابك الاقتصادى والتقارب الفكرى، إنه آن الأوان للتخلى عن دعاوى الوحدة التى داعبت نفوس كل من الأوروبيين والعرب خلال القرن العشرين، واستنباط صيغة جيدة تساير التطورات، التى ألقتها عواصف العولمة على أبناء القرن الحادى والعشرين؟ أم أن العيب فى حصر عملية التكامل الوظيفى فيما هو اقتصادى بالرجوع إلى علم اقتصاد لا يلقى علماؤه بالا إلى الجوانب الأخرى لشئون الحياة، وأن علينا أن نعيد بناء ذلك العلم على نحو يساير أحوال العصر، ليعود علم «اقتصاد سياسى» ولكن دون استنساخ مقولات صحت فى المراحل الأولى للرأسمالية الصناعية، أو استخدام أسلوب القص واللصق من دعاوى أطلقت فى تطبيقات اشتراكية سابقة؟
يقضى المنهج الوظيفى بالتدرج فى بناء اتحاد جمركى يجرى فيها تبادل كل من المنتجات الوطنية والأجنبية بحرية تامة، وهو ما يفترض توفر تقارب فى البنيات الاقتصادية حتى لا تتضرر أنشطة اقتصادية قائمة فى بعض الدول الأطراف لفائدة أطراف آخرين.

وحينئذ يسمح بانتقال عناصر الإنتاج من عمال ورءوس أموال للاستفادة من التوسع فى السوق المشتركة، لينتهى الأمر إلى سوق موحدة. ومع ذلك تستبقى حكومات الدول الأعضاء بيدها أدوات السياسة الاقتصادية، المالية والنقدية، لتوفر متطلبات التنمية وتواجه الآثار الضارة للتقلبات الاقتصادية، سواء الراجعة إلى عوامل داخلية أو أخرى خارجية، وفى نفس الوقت تديرها على نحو ينسجم مع متطلبات استقرار السوق الموحدة. وتعتبر السياسات النقدية، بما فيها سعر الفائدة وسعر الصرف، من أهم أدوات السيطرة على الاستقرار الاقتصادى وتلافى الآثار السلبية لأى خلل فى التوازن المالى للموازنة العامة، وفى التوازن الخارجى لتوازن المدفوعات.

فإذا انضمت الدولة إلى اتحاد نقدى حرمت من بعض هذه الأدوات اللازمة لانسجام حركة اقتصادها الوطنى مع اقتصادات شركائها، بينما تستطيع على الجانب الآخر أن تتوسع فى الإنفاق المحلى دون كابح نقدى اعتمادا على قوة العملة الموحدة، وكأنها سحبت من رصيدهم دون استئذان. ولذلك فرض الاتحاد الأوروبى بعض المعايير للمتغيرات المؤثرة فى قيمة العملة، أولا كشرط للانضمام إلى الاتحاد النقدى، وثانيا لضمان الانضباط فى تسييره. وفى حالة اليونان تأخرت فى الانضمام لحين استيفاء شروط الانضمام، ولكن يبدو أنها لم تتمكن من البقاء فى الحدود المأمونة، وهو ما ساهمت الأزمة العالمية فى تضخيمه. ومثل هذا الوضع كان يمكن تلافيه بأحد أمرين: إما التدقيق فى الشفافية ووجود آليات للرقابة على مستوى الاتحاد قادرة على التفاهم مع الدولة على إجراءات التصحيح، أو المضى خطوة أبعد فى الاتحاد الاقتصادى ليخضع المالية العامة لنوع من الإشراف الإقليمى كشرط للانضمام إلى الاتحاد النقدى.

من جهة أخرى فإن حالة اليونان ليست وحيدة، فهناك إسبانيا وإيطاليا، وكذلك أيرلندا والبرتغال، وهى اقتصادات ضعيفة نسبيا، انضمت بعد تغييرات فى نظمها السياسية نحو الديمقراطية وتلقت برامج تأهيل للحاق بالدول السابقة فى العضوية (باستثناء إيطاليا التى استفادت من الصناديق الاجتماعية عند انضمامها كمؤسس).
وقد نأت بريطانيا (والدنمرك) بنفسها عن الاتحاد النقدى، ومع ذلك لا تبدو حاليا فى وضع أفضل. وسوف تحتاج اليونان إلى ما لا يقل عن ثلاث سنوات للخروج من مأزقها، بمعاونة الاتحاد وصندوق النقد الدولى، مما يعنى اتباعها برنامجا يقره الطرفان وتتحمل أعباءه الفئات الكادحة. وليس من المعقول أن تنسلخ من اليورو وتعود إلى الدراخمة لأن هذا قد فات أوانه، كما أنه ليس من المحتمل تفكيك الاتحاد النقدى، لأن فى هذا نهابة التكامل الأوروبى ووأد لحلم الوحدة التامة.

ومع ذلك فإذا كانت المشكلة هى التحكم فى السياسات المالية، فهل يعنى هذا ضرورة إيجاد مرحلة لاتحاد مالى fiscal قبل النقدى؟ ألا يدعو هذا إلى استدعاء البعد السياسى لارتباطه القوى بالمالى؟ إن لهذا الاحتمال أهميته فى دول عربية تعتمد اقتصاداتها على موازناتها العامة، لا العكس.
محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات