الحياة تنبض فى مصر - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة تنبض فى مصر

نشر فى : السبت 12 مارس 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : السبت 12 مارس 2016 - 10:00 م
غيبة استجابة الجسد لصدمات تحفزه موات. وأسوأ ما يمكن أن يحدث لمجتمع هو ألا تصدر عنه ردود أفعال على ما يواجه أفراده من مصاعب أو ما ينزل به من إجراءات أو يغيب عنه من تدابير. إن امتنع على الجسم الاجتماعى الاستجابة لما يفترض أنه يحفزه، فإن هذا الجسم يكون قد مات. قد يرغب المتعامل مع الجسم الاجتماعى فى أن يستجيب هذا طربا مع ما يحسن به إليه، ويرتاح إلى غيبة الاستجابة إن كان المحفِز تضييقا عليه أو تنكيلا به. هذا المتعامل المفترض قد يكون السلطة فى أى بلد من البلدان، أو فرعا من أفرع هذه السلطة. ولكن فى أى الأحوال، الصواب يجانبه.
الجسم الاجتماعى، أو المجتمع الميت عبء على السلطة وعالة فهو لا يستجيب لأى محفزات أو سياسات، وإن كانت سليمة التصميم. الجسم المستجيب تألما ورفضا لكل اعتداء على سلامته هو الذى يستطيع أن يمثل الغذاء المادى وغير المادى الذى يتناوله ويتفاعل مع المقويات المضافة إليه.

أسابيع بعد أخرى، يكشف المجتمع المصرى عن أنه حى، ولقد تكثفت مظاهر الحياة فيه فى الأسابيع الأخيرة. احتجاجات ووقفات لمجموعات عديدة من المواطنين وتجمعات لمجموعات أخرى منهم تبادر لحماية المجتمع وتنظيمه. ليس المقام هنا مقام حكم على سلامة حجج المحتجين من خطأها أو وجاهة المبادرة بإنشاء هذا التجمع أو ذاك من عدمها. آلاف من سائقى التاكسى يحتجون على منافسة جديدة عليهم لم يعتدوها من سيارات خاصة تمارس نفس عملهم وتنقل المواطنين بين أماكن وأخرى فى المدن. آلاف أخرى من العمال فى الشركة المصرية للاتصالات يدخلون فى اعتصامات مفتوحة بمقار عملهم فى مختلف المحافظات، للمطالبة بمستحقاتهم بل وبإقالة مجلس إدارة الشركة. أئمة مساجد ينظمون وقفة احتجاجية أمام رئاسة مجلس الوزراء للمطالبة بزيادة أجورهم وتحسين أوضاعهم. عشرات من ملاك الأراضى فيما يسمى الحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر يحتجون أمام مجلس النواب على سحب وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية لأراضيهم بمعاونة الأجهزة الأمنية. عاملون بالشحن والتفريغ بميناء سفاجا يتجمعون اعتراضا على نظام العمل بشركتهم. عمال بشركة لتصنيع السجاد بدمنهور يعتصمون للمطالبة برفع مستوى أجورهم. عمال شركة مصر إيران للغزل والنسيج بالسويس، ينظمون وقفة احتجاجا على شروط عملهم وظروفه.

هذه بعض أمثلة على تحركات مجموعات من المواطنين خلال فترة وجيزة من نهاية شهر فبراير وبداية مارس، أعقبت تجمهر سكان حى الدرب الأحمر فى القاهرة ومحاصرتهم لمقار الشرطة، كرد فعل على مقتل واحد منهم برصاصة من واحد من أفرادها، كما أنها تلت إضرابا لفترة طويلة لعمال شركة بتروتريد فى أغلب مواقع العمل فيها فى عدة محافظات، للمطالبة بتطبيق بنود لائحة الشركة عليهم. الأطباء اجتمعوا بأعداد لا سابقة عليها فى نقابتهم دفاعا عن سلامتهم كمجموعة من المهنيين المتخصصين وللمطالبة بظروف عمل تمكنهم من تلبية حق مجموع المواطنين فى الصحة تلبية مقبولة المستوى. يمكن أن يضاف إلى هذه التحركات الاحتجاجية والمطلبية، الإضراب عن الطعام وراء غياهب سجن العقرب الذى نظمه عدد من نزلائه احتجاجا على ظروف سجنهم ووصلت أصداؤه إلى الرأى العام.

سوق هذه الأمثلة على التحركات الاحتجاجية والمطلبية الغرض منه هو مجرد التنويه بأن المواطنين لا يسكتون على ما يعتبرونه إجحافا بهم واعتداء عليهم وإنكارا لحقوقهم. يلاحظ أن الاحتجاجات والمطالبات صدرت باستثناءين اثنين عن الطبقة العاملة والطبقات الشعبية عموما التى يشيع عنها أنها تقبل بما يُقسم لها لأن ظروف الحياة وسعيها فيما يعينها عليها لا تترك لها مجالا للاحتجاج. هذه التحركات دحض لهذا التقويم لموقف الطبقات الشعبية، وهى الغالبية فى المجتمع، من ظروف الحياة التى تفرض عليها.

***

الأزمة الممتدة للجنيه المصرى وإجراءات مواجهتها فى السنة الأخيرة كانت قد أثارت ردود أفعال ونقاشات حول سلامتها فى دوائر الأعمال وبين المتابعين للنشاط الاقتصادى وأداء الاقتصاد الوطنى. التدهور السريع للجنيه المصرى وسبل معالجته فى الأسبوعين الأخيرين وسعت من نطاق النقاش العام حولها وهى وصلت إلى حلقات السياسيين ودارسى السياسة ومحلليها لإدراكهم لآثار التدهور على تكاليف الحياة وعلى تلبية الاحتياجات المعيشية للشعب عموما، ولتلك الطبقات الشعبية التى ما انفكت تتحرك للدفاع عن مصالحها وللمطالبة بحقوقها خصوصا. النطاق الأوسع للنقاش حول أزمة الجنيه نابع من الوعى بآثارها على الاستقرار السياسى والمجتمعى.

ليست منفصلة عن التحركات الاحتجاجية والمطلبية مبادرات مجموعات المواطنين التى انتظمت بشأن حماية الدستور، وبعث الحياة فيه، وكذلك تلك الخاصة بتوحيد القوى الوطنية وتقديم بديل مدنى للحكم وسياساته. نشأ «منتدى الحياة الدستورية والعدالة للجميع» ومن بعده ظهرت للوجود «المؤسسة المصرية لحماية الدستور». الغاية من التنظيمين واحدة وهى صيانة روح الدستور الصادر فى سنة 2014 واحترام أحكامه وتفعيلها. «منتدى الحياة الدستورية والعدالة للجميع» اعتبر أنه مبادرة اجتماعية تؤمن «بأن المصلحة الوطنية تفرض تفعيل هذا الدستور بشكل فورى» وأن هذا التفعيل سيساهم فى أن تكون مصر «دولة ديمقراطية حديثة تحقق أهداف شعبنا فى العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية».
«المؤسسة المصرية لحماية الدستور» أشارت إلى اقتران ثورة العقد الثانى من القرن الجديد بالتطلع إلى «دستور يؤسس لدولة القانون المدنية الحديثة، دستور يكفل الحقوق والحريات للمواطنات والمواطنين، ويضع الضمانات الأساسية لاحترامها، ويدعم المسيرة الديمقراطية». المؤسسة أشارت كذلك فى بيان تأسيسها إلى «أن هناك ضرورة أيضا لتفعيل نصوص الدستور تفعيلا كاملا، والحفاظ على الحقوق والضمانات الواردة بها، وتنقية البناء التشريعى من القوانين المخالفة لها». وليس المبادرون بتأسيس المنتدى ولا من تجمعوا فى المؤسسة بالجامدين فى نظرتهم للدستور وموقفهم منه.
الأولون نوهوا بأن لدى بعضهم بعض تحفظات «ولكنهم يؤمنون بأنه لا ينبغى أن تعوق تفعيل هذا الدستور، فضلا عن أنه لا يمكن عقلا ومنطقاــ تبين صحتها من عدمه إلا عبر التطبيق العملى».
محركو المؤسسة اعتبروا أن موقفهم «لا يعنى الجمود فقد نص الدستور على إجراءات تعديله، إلا أن التعديل وفقا للأعراف الدستورية المستقرة يجب أن يستند إلى تجربة ممتدة فى التطبيق تبين ضرورة ومنطق ونطاق التعديل المطلوب لضمان تحقيق المصلحة العامة على أساس توافق وطنى واسع».

المبادرتان الخاصتان بالدستور تنبعان من إدراك أن المشروع التنموى الأكبر الذى ينبغى إعطاؤه الأولوية على ما عداه هو تشييد البناء الدستورى الذى يسمح بصياغة السياسات المسئولة وبترتيب الأولويات ويوازن بين السلطات، فيمكنه بذلك استيعاب الاحتجاجات والمطالب بسلمية وإنصاف وعدالة تكفل جميعها الاستقرار، وتوفر الاضطراب. فى مجتمع من تسعين مليون نسمة يزيدون حثيثا لا يمكن التعامل مع كل احتجاج على حدة ومع المطالب منفردة. قنوات تجميع الاحتجاجات والمطالبات والتعامل معها بفاعلية ضرورة بديهية فى القرن الحادى والعشرين. الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للتنمية لا يمكن التصدى لها بكفاءة وثبات واستدامة بدون البناء الدستورى المتين. فى غيبة هذا البناء، لا جدوى من أى مشروعات، بل ومن أى ثروات طبيعية وإن كانت هائلة.

وجود تنظيمين يرميان إلى تفعيل الدستور ليس فيه ما يعيب المنشغلين بالشأن العام فى مصر. على العكس، هو تأكيد، فى وقت تمس الحاجة إلى هذا التأكيد، على أن التعددية هى السبيل الوحيد للاستقرار السياسى وللتقدم الاقتصادى وللعدالة الاجتماعية وللازدهار الثقافى.

النظام السياسى المتين والاقتصاد المتقدم والمجتمع العادل والثقافة المزدهرة، والحداثة فيهم جميعا، هى الأسباب التى لا غنى عنها لتنمية قدرات الشعب، وهى كذلك الموارد الضرورية لتخوض مصر الحياة فى إقليميها العربى والأفريقى وفى العالم الأوسع من حولهما، ولتصوغ مصالحها باستقلال وتدافع عنها بكفاءة.

الحياة تنبض فى مصر. فلتكن الطاقة النابعة عن هذا النبض المحركَ لتشييد البناء الدستورى المؤسس لحياة سياسية ديمقراطية تعددية ومدنية حديثة.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات