قامُوس الجُهلاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس الجُهلاء

نشر فى : الجمعة 12 أبريل 2024 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 12 أبريل 2024 - 7:20 م

في إعلانٍ رمضانيّ لإحدى الجمعيات الخيرية التي تحثُّ المشاهدين على التبرع كما هو مُعتاد؛ ظهر مُفكرٌ شهير رحلَ منذ أعوام؛ مُعلنًا استهانته بقيمة ما كتب على مدار عمره، وشعوره بتفاهة الكلمات إجمالًا وبأنها لا يمكن أن تشفع للمرءِ بعد وفاته، وبناءً على هذا الاعتقاد قرَّر إقامة جمعية ومستشفى لخدمة الناس. لم أكن قد صادفت حديثَه هذا من قبل، والحقُّ أنني لم أرتح لمحتواه الذي مَحى في لحظات قصار جهدَ حياة بأكملها، وسواء اختلف الناس أو اتفقوا على كتابات الراحل؛ فقد ترك إرثًا فكريًا مهمًا لا يستحقُّ أبدًا أن يُهان، وإلا كان هذا الإعلانُ ترويجًا صريحًا لعدم أهمية الفِكر وتغليبًا لقيمةِ الجَّهل، وتحقيرًا من الإنتاج المُجرَّد للعقل؛ وجَدير بالذّكر أن أول ما تعلمنا في حصَّة الدين صغارًا تلك الدعوة الحصيفةَ للقراءةِ والفَهم والتدبُّر.

 • • •

جَهِلَ المرءُ الشيءَ أي؛ لم يَعرف به ولم يَحُز بشأنه معلومات. الجاهلُ فاعلٌ والمَجهول مفعولٌ به، والجَهالة مَصدر، أما التَّجهيل بتشديد التاء فعملٌ مُتعمَّد لا يُغتفَر؛ إذ يشير إلى إخفاء الحقيقة وطَمسها عن قَصد؛ وإذ تلجأ بعض الأنظمةُ السياسيةُ في مجال الرقابة إلى تجهيل المواطنين وحَجَب الحقائقِ عن الشُّعوب؛ فأسلوب خبيث للسَّيطرة والتحكُّم، ولإن بات الفرد في جَهالة وافتقر للمُعطيات الصحيحة؛ ما استطاع أن ينظم أفكارَه وأفعاله.

 • • •

عادة ما نقول: "العلم عند الله" أو "الله أعلم" بدلًا من قولة "لا أعرف"، والحق أننا نستحي الاعتراف بعدم امتلاكنا المعلومة التي قد نواجه سؤالًا عنها؛ فإذا حان دورنا في الإجابة ادعينا معرفة واسعة، وأفتينا بما تيسر، دون أن نهتم بتبعات فتوانا، وأكم من شخص ضل طريقه بفضل وصفة غير سليمة، وأكم من مريض اتبع فتوى جاهل فزاد من بلواه، وإذ يقال العلمُ نورٌ؛ فالجهلُ ولا شك ظلامٌ بَهيم.

  • • •

يقول المأثور: إن كنت تدري فتلك مُصيبةٌ وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم، والحكمة المُتضَمنةُ بليغةٌ على قِصَر العبارة؛ فالمعرفة تقلل من حجم الأزمة حتى ولو غاب ردُّ الفعل وامتنع الحلُّ، أما الجهلُ فيقطع الطريقَ منذ بدايتها؛ إذ الجاهل بوجود أزمةٍ لن يسعى من الأصل لحلها. يبدو الجاهلُ دومًا في غفلة من أمره، ولعل قولة "القانون لا يحمي المغفلين" بمنزلة تحذير وتنبيه، والمعنى أن غياب المعرفة لا يبرر الخطأ ولا يحمي من تبعاته.

 • • •

يشير مفهوم الجهل التقليدي المتعارف عليه إلى عدم الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة التي يتلقاها التلامذة في مدارسهم، أما المفهوم الأوسع والأشمل فيعكس ما لا علاقة له بالمدارس أو بشهادات التخرُّج؛ ولو كانت جامعية ولو وصل الحاصل عليها إلى أعلى المراتب؛ هو جهل بالحياة ومعتركاتها، لا يبرأ منه المرء سوى بخوض التجارب والتأمل فيها. بعض الناس جهلاء بسبب انعزالهم عن الدنيا، لا يعرفون عنها الكثير ولا يريدون أن يخرجوا من شرنقاتهم، يخاصمون الأحداث اليومية؛ صغيرها وكبيرها وينفرون من صخبها، ويظن بعضهم أنه في موقعه يرى ما لا يراه الآخرون، والحق أن فترات من العزلة قد تصبح بعض الأحيان ضرورية لراحة الذهن وتصفيته؛ لكن امتدادها يحرم الإنسان من التواصل والاحتكاك بالآخرين، ويجعله مفتقرًا إلى الخبرة العملية.

• • •

الجهل قرين الحمق؛ فالمرء ما جهل الأشياء من حوله؛ سلك مسلكًا غير ملائم، وإذ ظهر ضحلًا لا يدري من أمره شيئًا وُصِف بأنه أجهل من دابة؛ والقصد واضح فالدواب عاجزة عن التعلم، لا يرقى جهازها العصبي لمراحل التفكير والتحليل والاستنتاج واتخاذ القرار. لا يهتم الجهلاء في العادة بدراسة ما ينتوون القيام به ولو كان أمرًا جللًا؛ فإحساسهم بأهمية التدبر والتخطيط أٌقل دومًا مما ينبغي، وشعورهم بالمسئولية يكاد يكون منعدمًا. يفشل هؤلاء ولو بعد حين؛ فالحظ إن صادف الواحد مرة وأنقذه؛ تخلى عنه في الثانية وتركه يهوي. كثيرا ما نعتذر عن إساءة الظن بآخر أو عن عدم إعطائه ما يستحق من اهتمام، بالمثل الشعبي الطريف: "اللي ما يعرفك يجهلك"؛ والمعنى أن هذا الذي لم يخبرك ويعلم بقدرك له عذر في حرمانك من حقك.  

• • •

يشار بالشعر الجاهليّ للمنتج الأدبي الموضوع قبل ظهور الإسلام، والمراد أن واضعيه قد جهلوا بالرسالة الدينية؛ لكنهم ولا جدال لم يجهلوا بفن النظم والقرض ومن بينهم عمرو بن كلثوم وزهير بن أبي سلمى وامرؤ القيس، وقد جاء هؤلاء بقصائد ومعلقات فذَّة لم تزل حيَّة حاضرة إلى يومنا هذا.

• • •

جهل بعض الناس حقيقة ما حدث على أرض فلسطين منذ الوعد المشئوم؛ وإذ تبدل الواقع بقيام حرب السابع من أكتوبر في العام ألفين وثلاثة وعشرين، فقد انكشفت الأكاذيب وأدرك المخدوعون حجم ما تعرضوا له من تجهيل؛ انبرى بعضهم بالتصدي للمعتدين، وحاول بعض آخر أن يمارس ضغطًا على أولي الأمر والمسئولين العرب لعلهم يغيرون من سياساتهم، وتجاهل بعض ثالث ما عرف وصمت خوفًا من العواقب، وإذا جَهِل الواحد الحقَّ؛ فالمعنى أنه أضاعه، وما أكثر ما أضعنا من حقوق وما أوفر الفرص التي جاءتنا كي نستردها؛ لكنا تركناها تبتعد عنا وابتعدنا بدورنا وطالت المسافة؛ ولما انتبهنا قعدنا في أماكننا نادمين.

• • •

قال المتنبي من قديم: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ، والمعنى أن هذا الذي يملك القدرة على التفكير والإدراك؛ لا يهدأ ولا يرتاح له بال إذ المعرفة أرقٌ دائمٌ لا ينقضي، أما الغارق في جهله القاصر عن إعمال عقله؛ ففي راحة واسترخاء دائمين، لا يبحث ولا يدرس ولا تحركه رغبة في اكتشاف أو تجريب.

• • •

للخليل بن أحمد قولة شهيرة تلخص الوجود البشريّ: "الرجالُ أربعة؛ رجلٌ يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فاتبعوه، ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه، ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك طالب علم فعلموه، ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك جاهلٌ فاجتنبوه".

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات