قطاعات الوساطة وقضايا الحرية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قطاعات الوساطة وقضايا الحرية

نشر فى : الأربعاء 14 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 14 مارس 2012 - 8:00 ص

أصبح من المسلم به أن الأسواق ركن أساسى فى الاقتصادات الحديثة، تتم فيها جميع المعاملات، ما يتعلق منها بالمنتجات من السلع والخدمات، بما فيها خدمات العمل الإنسانى، ومنها ما يتعلق بالأصول القائمة التى تنتقل ملكيتها من يد لأخرى، بما فيها ما يتعلق بملكيات عقارية أو مالية أو سلع معمرة إنتاجية كانت أم استهلاكية، وهو ما يثير تمييزا بين الجديد منها والمستخدم الذى يوصف بأنه «نصف عمر». ومن الأسواق ما هو محلى قد لا يتعدى فى حدوده القرية الصغيرة، أو قد يمتد ليغطى إقليما أو الوطن بأكمله، ومنها ما هو دولى، يعبر الحدود الوطنية ليضم مجموعة من الدول تنشئ سوقا مشتركة، أو ليغطى العالم كله, وفى كل الأحوال هناك فئتان، إحداهما تعرض السلع أو الخدمات أو الأصول، والأخرى تطلبها. وباستثناء حالات قليلة يتم فيها اللقاء المباشر بين البائع والمشترى، فإن الغالب أن تجمع بين الاثنين فئة أخرى تعمل كوسيط بينهما، وهى التى يعنينا أمرها هنا.

 

●●●

 

وأول ما يلفت النظر أن هذه الفئة تتصف بالتفاوت الشديد بين تشكيلاتها، التى تتراوح بين أفراد يتكسبون أرزاقهم من العمل كباعة متجولين، ومحال كبرى تنشئها شركات عابرة القوميات كحلقة من سلسلة تحمل اسمها وتتبع قواعد وضوابط يصوغها خبراء متخصصون، تتضمن تدريب العاملين على سلوكيات تساعد على رفع كفاءة المنشأة واكتسابها حصة أكبر من السوق الذى تعمل فيها. بل إن وجاهة الوساطة تتجلى قى كونها توفر أهم الأسس التى يتخذ بموجبها المتعاملون قراراتهم.. ذلك أنه لا سبيل إلى قرار حكيم إلا بالتمعن فى المعلومات التى تمكن من تعظيم تحقيق الهدف المرجو منه. أما إذا اتخذت القرارات اعتباطا، لنقص فى المعلومات أو لإهمال متخذى القرارات لها، فإن هذا يؤدى لفشل السوق. والأسوأ من ذلك أن تصاغ المعلومات بقصد تضليل مستخدميها، سواء بإخفاء بعض المحاذير، أو بالمبالغة فى تصوير المزايا. ومن هنا لا يمكن الحديث عن أسواق جديرة بالاعتبار ما لم يكن ذلك مصحوبا بتوافر قواعد كفء للمعلومات وقنوات سليمة لتوصيلها بالقدر والسرعة المناسبين لأطراف التعامل. وبالتالى لا يكتمل الحديث عن سلامة الأسواق بدون التأكيد على صدق وسائل الإعلان والإعلام، ووصول ما تنقله من معلومات إلى جميع الأطراف.

 

وقد أسهمت ثورة المعلومات والاتصالات إسهامات متعددة قى هذا الأمر. فمن ناحية وفرت أدوات بناء قواعد المعلومات وتخليلها وتجهيزها وسرعة نقلها لمسافات تجاوزت حدود الأسواق بمفهومها التقليدى المقيد بالمكان الذى يستطيع الفرد التنقل فيه دون تكلفة عالية أو ضياع فى الوقت. وقلل ذلك من احتمالات التفاوت غير المبرر فى الأسعار وما يترتب عليه من خسائر لأطراف التعامل. يضاف إلى ذلك إمكان إجراء دراسات تساعد على التعرف على العوامل المحددة للأسعار وبالتالى إجراء تنبؤات أو توقعات بالتغيرات المحتملة فيها تتيح للمتعاملين مراجعة مواقفهم لتفادى ما يترتب عليها قبل حدوثها بوقت كاف. وتسهم مثل هذه القديرات فى إعداد دراسات الجدوى التى تتخذ فى ضوئها القرارات المتعلقة بالاستثمار. ومؤخرا ساهم تطور تكنولوجيا الاتصالات الذى أتاحته شبكات الاتصال فى ظهور أنماط جديدة للتعامل، تعرف بالتجارة الإلكترونية. وكان الشرط اللازم والكافى لها هو إمكانيات التحويل النقدى التى وفرتها النظم المصرفية التى كانت سباقة إلى استخدام وسائل الاتصال قى النقل الفورى للنقود داخل الحدود الوطنية وعبرها.

 

وهكذا نصل إلى الركن الأساسى للتطور الهائل فى قطاعات الوساطة الذى ارتبط بالانتشار الواسع للمنشآت عابرة القوميات. فكما أشرنا فى مقال سابق، شهدت سبعينيات القرن الماضى توجها للمنظومة النقدية لاكتساب حركة ذاتية بعيدا عن دورها فى دعم حركة الاقتصاد العينى. وصحب ذلك تطور كبير فى كيان مؤسسات الوساطة المالية، سواء البنوك المتخصصة فى تحريك النقود، أو تلك العاملة فى نقل مخصصات الاستثمار الباحثة عن فرص استثمار جديدة أو عن الاستحواذ على أصول قائمة، بما فى ذلك ما يتوجه إلى اقتناص ضحايا عمليات الخصخصة التى يفرضها الصندوق والبنك الدوليان أو المضاربة على أصول مقامة فى دول تجاهد من أجل النمو، لتسلبها أرباحا كان الأولى بها مواطنو تلك الدول. فإذا ظهرت نذر بتراجع القيم الرأسمالية، بادرت بالانسحاب تاركة ما تبقى حطاما يعصف باقتصادات تلك الدول. ولعلنا نتذكر ما تعرضت له أسواق المال فى جنوب شرق آسيا فى 1997، وما تعانيه سوق المال المصرية حاليا.

 

●●●

 

ورغم أن دعاوى الليبرالية الاقتصادية تتشدق بمزايا الحرية التى تتيح لكل فرد أن يحصل على أفضل عائد على إسهامه فى النشاط الاقتصادى بعمل أو رأسمال أو فكر فإن القوى الرأسمالية الكبرى تمارس ضغوطا لتحقيق مكاسب مدفوعة بدوافع ذات طابع استعمارى. ففى السابق كانت الدول الاستعمارية تنشر فروعا لبنوكها فى مستعمراتها لتمول من خلالها برامج استنزاف ثروات المستعمرات. وفى مصر انتشرت فروع البنوك الأوروبية لتؤمن مصالحها مستظلة بالامتيازات الأجنبية. وعندما احتدمت أزمة تأميم قناة السويس فى 1956، امتنعت البنوك الأجنبية عن تمويل محصول القطن وساهمت فى الحد من قدرة مصر على التصرف فى احتياطياتها، فكانت معركة التمصير التى خاضتها المؤسسة الاقتصادية التى أنشئت لتشغيل البنوك والشركات الأجنبية لصالح مصر وليس ضدها. كان هذا فى ظل الاستعمار القديم المباشر. أما الآن فى عصر الاستعمار غير المباشر، فإن الأساطيل تحولت إلى أذرع عابرات القوميات سواء فى التجارة أو البنوك. ففروع المتاجر الكبرى تتحيز للمنتجات الأجنبية وإلى منتجات محلية تسهم فيها رءوس أموال أجنبية. والأخطر أن المعايير التى تحكم ما تقدمه البنوك ذات الأبعاد الأجنبية من ائتمان ننحاز إلى المنتجات التى يرتفع فيها المكون الأجنبى أكثر من أخذ آثارها على توظيف العاطلين أو توفير حاجاتهم الأساسية. وبحكم انتماءاتها الأجنبية تفضل عمالة مصرية ذات ثقافة غربية، لغةً ومهارات، بل وقد تستقدم عمالة أجنبية (أحيانا آسيوية)، الأمر الذى ينشئ فجوة بينهم وبين نظرائهم من العاملين فى منشآت وطنية. وفى هذا السياق يحال العاملون القدامى إلى المعاش المبكر، بينما يعمل من يتبقى منهم تحت إدارة رؤساء ينتمون إلى الفئة المفضلة ولو كانت أقل خبرة مهنية. ويتسع الشرخ ليضرب مفهوم الهوية الوطنية فى مقتل.

 

وبدلا من أن بجلب رأس المال العربى خبرة إنتاجية (ربما لأنه لا يملكها) يميل إلى محاكاة نمط المولات التى نشأت فى الغرب لنقل الأسواق خارج المدن لمن ينتقلون بسياراتهم إلى خارج المواقع السكنية ويملكون ما ينفقونه للحصول على مؤونة أسبوعية أو شهرية، تاركين العامة ضحية الباعة الجائلين ومحال لا تتوافر فيها مقومات السلامة الصحية. وفى نفس الوقت تساهم تلك المولات التى تنتزع الأراضى فى أماكن مكتظة بالسكان فى رفع قيمة الأراضى وتنمّى المضاربات العقارية، استمرارا لسياسة رشيد التى عبر المخلوع عن إعجابه بها عند زيارته لكارفور فدعا إلى «مول لكل مواطن». الغريب أن ميدان التحرير الذى رفع شأنه من استعانوا بأحدث التكنولوجيات، أصبح مرتعا لأدنى صيغ التجارة شأنا، وأحطها بضاعة.

 

●●●

 

إن الحديث عن حرية السوق يقتضى أن نعمل أولا على تحرير الفرد والوطن، وتوفير مقومات الكرامة الإنسانية التى من أجلها قامت الثورة 

 

أما آن للمخلوع أن يرحل؟

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات