حين حذر الرئيس عبدالفتاح السيسى من الاختلاف وربط بينه وبين محاولات هدم الدولة، انتابنا شعور بالقلق والتوجس. ذلك أن التنوع والتعدد ليسا فقط من سمات الطبيعة البشرية، لكنهما أيضا من علامات عافية المجتمعات ودلائل حيويتها. وكنت قد أفردت فصلا لمعالجة الموضوع فى كتابى «للإسلام والديمقراطية» كان عنوانه: لأنه أرادنا مختلفين، انطلقت فيه من الآية القرآنية: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين» (الآية ١١٨ من سورة هود).
حين تابعت الكلمة التى ألقاها الرئيس السيسى فى ختام الاحتفال الفنى الذى أقيم بمناسبة ذكرى انتفاضة ٣٠ يونيو (عام ٢٠١٣) وقفت عند ذلك التحذير، إذ لم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة بين مضمون الرسالة والأجواء المخيمة على المجال العام، التى يتراجع فيها التعدد حينا بعد حين، واستحضرت المقولة التى انتقدت «تحرير الاقتصاد وتأميم السياسة». وهو النهج الذى برز فى الفضاء المصرى فى عهد الانفتاح الساداتى، وتم تكريسه فى مرحلة الرئيس حسنى مبارك، ولاحظنا نزوعا إليه فى الوقت الراهن، وهو ما بدا واضحا فى البرلمان الذى أصبح «يدا واحدة» مع الحكومة، متخليا بذلك عن دوره الرقابى على السلطة التنفيذية. والعاملون فى المجال الإعلامى يلاحظون تنامى ذلك الاتجاه بشدة خلال العام الحالى، رغم أن أكثر من ٩٠٪ من وسائل الإعلام إما أنها خاضعة لسيطرة الدولة أو أنها ملتزمة بإملاءات المؤسسة الأمنية وإدارات التوجيه المعنوى. وهو ما أعطى انطباعا خلاصته أن دائرة التنوع والاختلاف تضيق حينا بعد حين وأن مرحلة الرأى الواحد قادمة فى أجل ليس بعيدا.
طول الوقت ظللت مقتنعا بأن اختلاف الناس فى الرأى ضرورى، لكن ذلك لا ينبغى أن يحدث بينهم الخصومة أو يؤدى إلى الخلاف الذى يشق الصفوف ويورث العداوة والتنازع. وهو ما نبهت إليه وحذرت منه العبارة الشهيرة «اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية». (قرأت أن المقولة منسوبة إلى المفكر والفيلسوف المصرى الدكتور أحمد لطفى السيد أول رئيس لجامعة القاهرة ووزير المعارف والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية). إلا أننى حين وقعت على تحذير الرئيس السيسى من الاختلاف خطر لى أن أحاول تحرير المصطلح للتمييز بينه وبين الخلاف. وزيادة فى التدقيق رجعت إلى أستاذنا الدكتور حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية وأستاذ الفلسفة الإسلامية الأشهر. وجاء رأيه مفاجئا لى ومغايرا لما استقر فى ذهنى طوال السنوات التى خلت. إذ ذكر أن هناك فرقا جوهريا بين معنى الاختلاف والخلاف، فالاختلاف هو ذلك الذى يحدث بين كيانات متباينة. أما الخلاف فهو الذى يقع داخل الكيان الواحد. بالتالى فالأول مستهجن ومنبوذ فى حين أن الثانى محمود ومطلوب. وقد استند الدكتور الشافعى فى ذلك التمييز على الخطاب القرآنى. فنص الآية ٢٥٣ من سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات»، ثم تنتهى بالعبارة التى تقول: «ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد». والنص واضح فى أن الاختلاف حين وقع فإنه فصل بين كيانين، إذ آمن البعض فى حين آثر البعض الآخر الانحياز إلى الكفر. وبمقتضى ذلك التحليل فإن الخلاف يصبح أخف من الاختلاف، ويغدو التحذير من الاختلاف واجبا نظرا لعواقبه الوخيمة. أما الخلاف الذى يدور فى داخل الكيان الواحد فيظل عند الرأى فيه محمودا ومطلوبا.
طبقا لتحليل الدكتور الشافعى فإن تحذير الرئيس السيسى من الاختلاف والربط بينه وبين تدمير الدولة والمجتمع يصبح فى محله وموضوعه. ومن ثم لا مبرر للقلق إزاءه أو التوجس منه. وربما جاز لى أن أقول بأن الرأى الذى استقر عندى حينا من الدهر استند إلى التفسير الاصطلاحى للكلمتين، فى حين أن ما ذكره الدكتور الشافعى اعتمد على التفسير القرآنى واللغوى. وهو ما يثير عندى تساؤلا عن أيهما انحاز إليه الرئيس السيسى حين أطلق تحذيره؟ ــ لا أستطيع الإجابة عن السؤال. إلا أننى أتمنى أن يظل ثابتا على موقف الرفض للاختلاف المؤدى إلى تعدد الكيانات، وأن يعمل على تشجيع الخلاف الذى يدور داخل الكيان ويحفظ له عافيته وحيويته.