رهانات التعذيب الفاسدة - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رهانات التعذيب الفاسدة

نشر فى : السبت 13 ديسمبر 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : السبت 13 ديسمبر 2014 - 8:25 ص

لم تكن هناك مفاجأة فى تقرير مجلس الشيوخ الأمريكى عن التعذيب الممنهج والوحشى الذى ارتكبته الاستخبارات المركزية فى سجون سرية على نحو أهدر أية قيمة قانونية أو أخلاقية.

المعلومات الأساسية تواتر نشرها على مدى سنوات طويلة عن أساليب التعذيب ومواقع الاحتجاز وبعضها فى المنطقة العربية.

وكانت مصر من بين الدول التى أشارت إليها أصابع الاتهام بالتعذيب بالوكالة فوق أراضيها بأعقاب تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر عام (٢٠٠١).

لا يصح لدولة تحترم نفسها أن تتجاهل الاتهامات الخطيرة وتغض الطرف عن تأثيرها السلبى على سمعتها الدولية.

لابد أن يتكلم أحد هنا، يعلن الحقيقة ويوضح حدود التورط على عهد «حسنى مبارك» ويكشف أسبابه وخلفياته.

هذا الاتهام نشر فى صحافة المعارضة على نطاق واسع نسبيا أثناء حكم الرئيس الأسبق دون أن ينفى أحد، كأن التعذيب بالوكالة مما يمكن غض الطرف عنه أو اعتباره طبيعيا.

كان الصمت فى ذاته وثيقة إدانة.

رغم بشاعة الشهادات والوثائق التى تضمنها التقرير الأمريكى، نحو ستة ملايين وثيقة أغلبيتها على درجة عالية من السرية، فإنها ساعدت على بناء صورة إيجابية للولايات المتحدة وقدرة مؤسساتها على فتح الملفات الحساسة وتقصى حقائقها حتى يمكن تجنب ذات الأخطاء والخطايا مستقبلا، وفى ذلك إعادة تأكيد لما يسميه الأمريكيون «السلطة الأخلاقية».

هناك فارق جوهرى بين السلطة والسطوة، فالأولى تخضع لقواعد دستورية وقانونية وأخلاقية بينما الثانية قد تفلت من كل قواعد وتنتهك كل قيم.

ومع ذلك كله فالقضية ليست محض أخلاقية أو مساجلات معلقة فى الهواء بلا أرض تقف عليها.

ما جرى نشره من معلومات يقل عن (١٠٪) مما احتواه التقرير حتى لا يتسبب النشر المسهب فى الإضرار بالأمن القومى أو تعريض حياة مواطنين أمريكيين للخطر.

التفاصيل الموثقة تشرح وتضيف لما هو معروف.. وقد جسدت الصور المسربة من سجن «أبوغريب» بعد سقوط بغداد إشارة أولى لمستويات جامحة من التعذيب.

لفتت الصور إلى حالة مرضية لجنود أمريكيين يبدون استمتاعا غريبا بعذابات البشر واستهتارا بأية كرامة إنسانية.

كانت تلك فضيحة سياسية وإنسانية لم يتم التحقيق فيها بجدية ولا أنزل عقاب صارم بالمتورطين فيها.

وبغض النظر عن أية تقويمات سياسية للرئيس العراقى الأسبق «صدام حسين» وأركان حكمه الذين أودعوا سجن «كوبر» فإن ما تعرضوا له من سحل بدنى وزحف على الأرض لمسافات طويلة شبه عرايا تحت شمس محرقة رغم تقدمهم فى السن كان تنكيلا متعمدا لأية كرامة إنسانية دون أن يرتفع صوت واحد فى الولايات المتحدة ولا فى العالم العربى ليعترض.

عندما نشرت وثيقة خطية كتبها نائبه «طه ياسين رمضان» فى جريدة «العربى» يروى بالتفاصيل وقائع التنكيل الجسدى لم تشر إليها وكالة أنباء واحدة ولا اهتم أحد بتقصى الحقيقة.

المعنى بوضوح أن بعض الذين يدينون اليوم ما جرى فى السجون السرية من تعذيب بشع تواطؤا بالصمت فى شيوع الظاهرة.

القضية ليست توافق الهوى السياسى للضحايا، فبعضهم مجرمون بالمعنى الحرفى كمن يثبت بحقهم إهدار لحياة بشر آخرين دون ذنب أو جريمة.

وفقا للدساتير الحديثة فجريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، والمعنى أن استبعاد العقاب الجنائى ينتقص من قيمة تقرير هو الأول من نوعه فى التاريخ الأمريكى.

من ناحية سياسية فإن المساجلات التى صاحبت الإعلان عنه تكاد تكافئه من حيث الأهمية.

الاستنتاج الرئيسى فى التقرير أن تقنيات الاستجواب القاسية للمشتبه بتورطهم فى الإرهاب لم ينتج عنها فى أية لحظة أية معلومات منعت أية تهديدات وشيكة.

المعنى أن رهانات التعذيب فاسدة واللجوء إليه بزعم الحصول على المعلومات ينتهك على نحو فادح القيم القانونية والإنسانية بلا جدوى تقريبا.

بحسب التقرير الأمريكى فإن كل المعلومات التى جرى الحصول عليها ومنعت تهديدات إرهابية تمت بوسائل التحقيق الطبيعية وذكر أمثلة عديدة تؤكد استنتاجه الرئيسى من بينها عملية الوصول إلى زعيم القاعدة «أسامة بن لادن».

الحقيقة الموجعة أن الاستخبارات الأمريكية استعارت خبرات «الشرق الأوسط» فى التعذيب دون ضرورة أمنية جدية ووفرت حججا إضافية للتوسع فى انتهاك الحدود الدنيا من الكرامة الإنسانية فى سجون دولها.

كان ذلك عبئا إضافيا على أية محاولات مضنية فى المنطقة لنبذ التعذيب وثقافته الأمنية التى تبرره. ورغم محاولات الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» طى صفحة الماضى أو القول إنها انطوت فإن القضية لم تغلق بعد ولا مرشحة لمثل هذا الإغلاق فى مدى منظور.

هناك فى صفوف الجمهوريين من هو مستعد علنا للدفاع عن التعذيب وتبريره واعتبار التقرير كله «كلام فارغ» على النحو الذى تحدث به نائب الرئيس الأمريكى الأسبق «ديك تشينى».

تصريحاته تؤكد المسئولية السياسية والجنائية لإدارة «جورج دبليو بوش» وأن «الكلام الفارغ» حقا ادعاء أن الاستخبارات أخفت الحقيقة عن الإدارة الأمريكية التى كان هو رجلها القوى.

فى التصريحات تتبدى ثقافة التعذيب بأكثر مما قد يفصح عنه أشد الطغاة جبروتا فى العالم الثالث.

عندما تعتقد أن وسائلك للأمن تتأتى من ممارسة الحد الأقصى من انتهاك أية حقوق إنسانية وأن خرق القانون من ضرورات طلب الدفاع عن النفس فأنت تنزع عن نفسك أية فوارق أخلاقية وسياسية مع الجماعات الإرهابية.

هناك فارق بين الدول والعصابات.

معضلة «تشينى» أنه يدافع عما لا يمكن الدفاع عنه، فقد أفضت استراتيجية «بوش» فى مكافحة الإرهاب إلى سلسلة من الهزائم نالت من سمعة الولايات المتحدة كما لم يحدث من قبل.

استخدمت تفجيرات نيويورك، وهى بشعة بأية معايير سقط بأثرها مئات الضحايا، فى احتلال بلدين أفغانستان والعراق، ولم يكن للثانية أية صلة بـ«تنظيم القاعدة» كما لم تثبت صحة المزاعم الأمريكية والبريطانية عن امتلاكها أسلحة دمار شامل.

جرى تفكيك العراق جيشا وأمنا وإحالته إلى دولة تنهشه الصراعات المذهبية وتسوده بيئات قابلة لاحتضان الجماعات الإرهابية.

وكان ذلك مقصودا وممنهجا لتحطيم القوة العربية الثانية بعد مصر مباشرة والتى كانت تنتظر دورها فى نهاية المطاف كـ«جائزة كبرى» ÈÊÍÑíÖ ÅÓÑÇÆíáí.

وقد ترتب على هذه السياسة فى ظروف جديدة إجهاض ما يسمى بـ«الربيع العربى» ورهانات على الإسلام السياسى، بما فيها أشد جماعاته تطرفا، وحروب دولية وإقليمية بالوكالة وعشرات الملايين من اللاجئين وانتشار الصراعات المذهبية وتمدد الجماعات التكفيرية فى بنية المجتمعات العربية وأخطرها «داعش» التى لم تخرج من فراغ.

هذه كلها جرائم ضد الإنسانية لم يقترب منها التقرير الأمريكى ولا أشار إليها، كأنه يمكن التعرض لما جرى فى السجون السرية من انتهاكات مروعة دون أية إشارة للسياق الاستراتيجى والسياسى الذى جرت فيه.

ما نحتاجه هنا أن نراجع الملف باستعداد للاعتراف بأية أخطاء وخطايا سوغت التعذيب بالوكالة وأن نستخلص الدرس نفسه من أن انتهاك الحقوق الإنسانية لا يفضى إلى أية قدرة إضافية فى الحرب مع الإرهاب والأهم من ذلك كله أن نراجع السياق السياسى والاستراتيجى الذى أودى إلى خراب المنطقة.