شمة.. فى أربيل - كمال رمزي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 1:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شمة.. فى أربيل

نشر فى : السبت 14 أبريل 2012 - 8:35 ص | آخر تحديث : السبت 14 أبريل 2012 - 8:35 ص

دخل من الكواليس متجها نحو منتصف المسرح. وقف فى بؤرة الضوء. انحنى مبتسما فى خجل مع تصاعد صوت التصفيق. قال، كأنه يتغنى تأكيد الأمر: هكذا: بعد تسعة عشر عاما من المغادرة، أعود إلى العراق حيث ولدت فى كردستان. جلس على الكرسى الوحيد، بحنو، قرب رأسه نحو العود. تماما كما تحتضن الأم وليدها. العود، جزء من تكوينه الجسدى. ربما من الصعب تخيله من دونه. ما إن بدأ يجرى أصابعه على أوتاره حتى يحس المستمع أنه إزاء فرقة موسيقية كاملة، تشتمل على بيانو، جيتار، قانون، طبلة، دف، فضلا عن آلات أخرى، يستدعيها العازف، حسب احتياجه، كى يستكمل لوحاته الموسيقية.

 

نصير شمة، النحيل، يشبه أحد أوتار العود، يعززه رأسه المجلل بشعره الفاحم السواد، يمتد من فروة الرأس إلى ما حول الوجه، يذكرك بأحد مفاتيح الأوتار.. كان الحفل فى قاعة الشهيد العراقى، الكردى، سعد العبدالله، إحدى قاعات مركز المؤتمرات الضخم، المقام بمدينة أربيل، عاصمة الإقليم، حيث تعيش أياما ثقافية، خضراء، مزدهرة، بمناسبة إقامة «معرض الكتاب».. أربيل، الموغلة فى القدم، تعمل جاهدة فى التقدم للمستقبل، يتجلى طموحها فى حركة البناء الواسعة، تشهدها حولك فى كل مكان، بما فى ذلك ما تم تشييده من فنادق وعمارات، مصممة على أحدث طراز، الأهم، بناء البشر، ممثلا فى طوابير أطفال المدارس، وفتيانها، الداخلين ببهجة إلى المعرض، والخارجين منه، يحملون أكياس الكتب.

 

ما بين الماضى والمستقبل، ينبض الحاضر، فى مقطوعات نصير شمة، حاملة معها ألم الواقع وآماله، متجاوزة دوائر أربيل، لتمتد آفاقها إلى فلسطين وسوريا، وهى فى هذا لا تقدم حالة انفعالية أحادية الجانب، لكن تعبر، دراميا، عن صراعات داخلية وخارجية، فالمقطوعة المهداة للأمهات الفلسطينيات، تكاد تشعرك بالتوتر، الأجواء القائمة، الصراع بين الأوتار الرفيعة والغليظة، الكر والفر، المواجهات، العزيمة.. فى مقطوعة «شقلاوة» اسم المدينة السياحية التى ولد بها، يصفها بالجنة ــ يتهادى من أوتار عوده إحساس بطفولة سعيدة، أشجار وارفة، مياه تنساب وادعة، ربيع متجدد. إنها انشودة غزل، تلفت نظرنا إلى غيرها من مقطوعات تعبر، على نحو مرهف وشديد الإيحاء، بأماكن عراقية أخرى، مثل «بغداد كما أحبها»، التى تجمع بين تنوع الأصوات وحلم الطمأنينة والسلام، بالإضافة لمقطوعة «بين الرصافة والكرخ»، التى تبدو كحوار عذب بين مكانين.. خارطة العراق الإنسانية، نراها بآذاننا، خلال عزف فناننا الكبير.

 

على امتداد سبعين دقيقة، وسط أنفاس  جمهور معلقة فى الفضاء، توالت معزوفات نصير شمة، بعضها يتلمس جروحا غائرة، مثل «حلابجة»، حيث ينهمر الموت على السكان، فنكاد نسمع أنين الضحايا، بل زفرات الأنفاس الأخيرة. هنا، تتحول الصور المعروفة، القاسية، إلى دقات ونبرات موسيقية، وتصل إلى إحدى ذرواتها، حين يستغنى العازف عن الريشة، مستخدما أصابعه العشر، مبينا إمكانيات العود الواسعة، برقته التى تجعله أقرب للمندولين، ووحشيته التى تحوله إلى ما يشبه الجيتار، وليونته التى تنافس البيانو، وتداخل ألحانه على طريقة القانون.. نصير شمة، العربى بامتياز، يعزف لـ«شهداء سوريا»، ولـ«من بترت أذرعهم وأرجلهم».. هكذا، إذا كان العود «ملك الآلات» فإن نصير شمة، بالتأكيد، أحد أمرائه.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات