أفكار عن العلاقة بين السلطة والأنساق القيمية للشعوب - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أفكار عن العلاقة بين السلطة والأنساق القيمية للشعوب

نشر فى : الجمعة 15 يناير 2016 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 15 يناير 2016 - 10:10 م
أمام السلطة دائما اختيار حقيقى بين أن تخاطب أفضل ما فى الناس وبين أن تستدعى أسوأ ما فيهم.
فعالمنا البشرى لا وجود به للمدن الفاضلة، ولا لتجمعات المثاليين الأنقياء. والأنساق القيمية للشعوب يتداخل بها حب العلم والعقل والعدل والحق والحرية والتسامح والتضامن مع الضعفاء، مع النزوع إلى الاحتفاء بالجهل وتبرير الظلم واعتياد التطرف والاضطهاد والتمييز والتورط فى كراهية الآخر، وتفضيل العنصرية على المساواة والنفاق على الصدق. وإذا كانت المؤسسات والنخب والرموز المجتمعية، تضطلع بالعديد من الأدوار المؤثرة فى إعلاء شأن قيم بعينها على غيرها، فإن الاختيارات القيمية للسلطة تكتسب أهمية خاصة.
هل تغرس المؤسسات التعليمية ومؤسسات التنشئة قيم العلم والعقل والمساواة والتسامح فى أذهان متلقى خدماتها؟ هل تدعو المؤسسات الدينية إلى قبول الآخر أم تروج لكراهيته؟ هل يناهض من تعينهم المؤسسات الدينية كحملة «أختام الفضيلة» التطرف والاضطهاد والتمييز أم يستسيغون مثل هذه الشرور؟ هل تقدم النخب المجتمعية زادا قيميا يصلح أن يحتذى به بين قطاعات شعبية واسعة؟ هل يصنع المبدعون والمفكرون والعلماء وأصحاب الرأى كأصحاب الأعمال النماذج الملهمة فى مجالات الدفاع عن العدل والحق والحرية وفى أبواب الإيثار والتضامن مع الضعفاء والمهمشين؟ هل تواجه النخب شرور كراهية الآخر والعنصرية وعقيدة «البقاء للأقوى» حين تنتشر وتهدد سلم المجتمعات وإنسانيتها أم تصمت عنها خوفا من أن يصيبها شرها وربما تنزع إلى الاعتياش عليها لضمان بعض مصالحها؟ هل يصنع الناس رموز حياتهم العامة، وفقا لتفضيلات إنسانية محددة أم تراهم ينساقون إلى التماهى مع الأقوياء «بغض النظر عن مظالم بعضهم على الأقل»، والأغنياء «بغض النظر عن مفاسد بعضهم على الأقل»، والمشاهير «بغض النظر عن نفاق بعضهم على الأقل؟»
تشير جميع هذه الأسئلة، ولا ريب، إلى الأدوار القيمية المؤثرة للمؤسسات والنخب والرموز المجتمعية. ومع ذلك، تظل لاختيارات السلطة أهميتها الخاصة.
***
من جهة أولى، وهنا تستوى نظم الحكم الديمقراطية مع الحكومات الشمولية والسلطوية، يراقب الناس دائما سياسات وممارسات الحكام، ويبحثون عن المكون القيمى بداخلها تماما كما يختبرون نتائجها فى واقعهم المعاش. فى الولايات المتحدة الأمريكية، كمثال «غير مثالى أبدا» للحكم الديمقراطى، يدلل عديد استطلاعات الرأى العام على تأييد أغلبية شعبية مستقرة لمنظومة سياسات التأمين الصحى الإلزامى التى بدأت إدارة الرئيس باراك أوباما فى تطبيقها منذ بضعة سنوات، بسبب قيم العدل والمساواة والتضامن المجتمعى التى تتخلل المنظومة هذه، وليس بفعل النتائج الواقعية التى تتفاوت الآراء بصددها «بين مؤيدين يدافعون عن النجاح فى تمكين ما يقرب من 15 مليون فرد من الحصول على تأمين صحى، وبين معارضين يركزون على تكلفة الرعاية الصحية التى يتواصل ارتفاعها». تدلل استطلاعات الرأى العام أيضا على حضور انقسام قيمى حاد فى المجتمع الأمريكى بشأن الموقف من فرض قيود حكومية على عمليات بيع وشراء الأسلحة وإخضاعها للرقابة القانونية. فمعدلات التأييد لقرارات الرئيس أوباما «مسماها هو الأوامر التنفيذية والتى تصدر دون احتياج لموافقة الكونجرس كسلطة تشريعية» فرض بعض القيود تقترب للغاية من معدلات الرفض، ومصدر التأييد هو الرغبة فى الانتصار لقيم السلمية ومناهضة العنف ومصدر الرفض هو الدفاع عن حق الفرد فى الملكية الخاصة، بما فى ذلك ملكية السلاح وحريته فى التصرف دون رقابة مسبقة من هيئات حكومية. وفى خطابه السنوى عن «حالة الاتحاد»، اختار أوباما يوم الثلاثاء الماضى، أن يواجه ترويج بعض المتنافسين على بطاقة الحزب الجمهورى للترشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة «خريف 2016» لقيم سلبية كالخوف وكراهية الآخر والعنصرية الصريحة ضد ذوى الأصول العربية والمسلمة وضد الفقراء من المهاجرين بترويج مضاد لقيم إيجابية. وتمثلت هذه فى تشجيع المواطنات والمواطنين على التفاؤل والثقة فى المستقبل، ونبذ شرور الخوف والكراهية والعنصرية التى وصفها كعوائق للتقدم والحرية وسيادة القانون، والتمسك بقيمتى التسامح إزاء الآخر والتضامن مع الغريب اللتين ميزتا طويلا المجتمع الأمريكى.
أما فى مصر، كمثال للديمقراطية الغائبة والسلطوية الحاضرة منذ عقود دون انقطاع، فتختزن الذاكرة الجمعية لقطاعات شعبية واسعة أحكاما قيمية على سياسات وممارسات الرؤساء السابقين. ينظر إلى مجمل حكم الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر كدفاع عن العدالة الاجتماعية وعن حق الفقراء ومحدودى الدخل فى ظروف معيشية، تليق بالكرامة الإنسانية، وأيضا كانقلاب مستمر على قيمة الحرية وحق المواطن فى الاختيار، رتب تورط مؤسسات وأجهزة الدولة فى القمع وكارثة الرقابة البوليسية الشاملة للمجتمع. أما «ما يقرب» من عقد الرئيس الأسبق السادات فى الحكم، فتتفاوت تقديراته بين كونه مقلوب التجربة الناصرية – أى تنصل من قيمة العدالة الاجتماعية وإقرار لقيمة حرية المواطن – وبين نزع قيمتى العدل والحرية عنه والإيغال فى إصدار الأحكام القيمية بشأن إهدار حقوق الفقراء ومحدودى الدخل وبشأن الدولة البوليسية التى يروج لكونها لم تتراجع ساداتيا سوى رمزيا.
والثابت أن بحث الناس عن المكون القيمى لسياسات وممارسات الحكام، فى الديمقراطيات كما فى الحكومات الشمولية والسلطوية، يرتبط بتحديدهم فرديا وجماعيا لتفضيلاتهم القيمية. دوما ما تتأثر الشعوب بالحكام قيميا، منتخبون كانوا أو محتكرون للحكم بعيدا عن صناديق انتخاب نزيهة، محترمون لسيادة القانون فى فعلهم كانوا أو فاشيون عاصفون بها ومتورطون فى القمع وفى الترويج للكراهية. دوما ما تتأثر الشعوب بالحكام قيميا، ومن ثم يتماهى البعض مع القيم التى يجسدها الحكام تأييدا وموالاة لهم أو يرفضونها معارضة لهم وتضامنا مع معارضيهم. دوما ما تتأثر الشعوب بالحكام قيميا، ومن فرط التأثر تتبلور بعض انطباعات الرأى العام التى لا تزول سريعا عن «الرئيس الذى كان نصيرا للفقراء» وعن خلفه الذى «انقلب عليهم»، عن حاكم «تراكمت فى عهده المظالم والانتهاكات وشاع الخوف والنفاق» وعن آخر «التزم العدل وأراد الحرية»، إلى آخر تلك المقارنات الثنائية التى يندر عدم وجودها شرقا كما غربا وجنوبا كما شمالا.
***
من جهة ثانية، وهنا أيضا تستوى نظم الحكم الديمقراطية مع النظم الشمولية والسلطوية، يملك الحكام أدوات دعائية وتواصلية متنوعة لمخاطبة الشعوب والترويج مجتمعيا لقيم بعينها ومناهضة غيرها. قد يعمد بعض الحكام المنتخبين إلى نشر الخوف والاستخفاف بالحقوق والحريات بين مواطنيه، كما فعل الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش، وربما كرر مع إضافة مكونى كراهية الآخر والعنصرية الفاضحة رجل الأعمال دونالد ترامب، حال نجاحه فى الفوز ببطاقة ترشح الحزب الجمهورى وفوزه بالانتخابات الرئاسية القادمة، أو كما تفعل حكومات اليمين المتطرف المنتخبة فى عدد من البلدان الأوروبية. وقد يتميز بعض محتكرى الحكم من الرؤساء والملوك والأمراء بمناهضة التطرف والاضطهاد والتمييز أو بالإعلاء مجتمعيا، من شأن قيم المساواة أو بالدفاع عن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، كما يدلل ماضى الكثير من البلدان التى حكمتها الأحزاب الشيوعية فى النصف الثانى من القرن العشرين وخليط من ماضى وحاضر حكومات سلطويات عربية وغير عربية.
بل قد يصل بعض محتكرى الحكم إلى قناعة قيمية مؤداها، أن الاحتكار مآله إلى زوال آت وأن مصادرة الحقوق والحريات أبدا لا تدوم وإن استمرت تعوق التقدم والتنمية، ومن ثم يشرعون تدريجيا فى إقرار سيادة القانون وإدخال إصلاحات ديمقراطية جادة وحقيقية. قطعا، لا يصل محتكر الحكم إلى قناعة قيمية كهذه فى فراغ مجتمعى، عادة ما تدفعه إليها الضغوط الشعبية أو الأزمات الاقتصادية أو الانتكاسات الوطنية. إلا أن التميز والإنجاز القيمى فى هذا السياق، الذى قدم الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا دى كليرك نموذجا واقعيا له، يتمثل فى امتناع المحتكر السابق للحكم عن معاندة الواقع المحيط به واستعداده للتضحية بامتيازاته الذاتية وامتيازات النخبة التى يمثلها فى سبيل اقتراب الشعب من حاضر ومستقبل أفضل.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات