عن قيمتى إعمال العقل والفردية المهدرتين - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن قيمتى إعمال العقل والفردية المهدرتين

نشر فى : الجمعة 15 أبريل 2016 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 15 أبريل 2016 - 10:10 م
السؤال هنا هو لماذا ينجرف الكثيرون بين ظهرانينا فيما يخص القضايا العامة إلى إلغاء العقل، والامتناع عن إعمال ملكاته بحثًا وقراءة وتفكيرًا ومفاضلة بين الاتجاهات المختلفة؟ السؤال هنا هو لماذا يتخلى الكثيرون بين ظهرانينا طواعية عن فرديتهم التى لها أن تمكنهم من التعبير الموضوعى والمستقل عن الرأى بشأن القضايا العامة ويفضلون الانصهار فى جموع ترفع يافطات الرأى الواحد، وتنزلق من ادعاء الصواب الخالص مرورًا بادعاء احتكار الحقيقة الخالصة ونزع المصداقية عن كل من يختلفون معها إلى هاوية الغوغائية المتوحشة؟

إذا كانت النخب، حاكمة ومعارضة، تغرى قطاعات شعبية واسعة بالالتحاق بالجموع ذات الرأى الواحد لكى تسهل السيطرة عليها وتوجيهها، فما الذى يبتغيه الناس أنفسهم من وراء ذلك؟ إذا كانت النخب ترى فى تعميم إلغاء العقل والتخلى عن الفردية بين الناس السبيل إلى الحفاظ على مواقع النخب حكمًا ومعارضة بالرغم من الإخفاقات المتراكمة والعجز عن صناعة التقدم للبلاد، فما الذى يبتغيه الناس أنفسهم من وراء ذلك؟ ولماذا لا ينسحب البعض بعيدًا عن جموع الرأى الواحد حين تتضح غوغائيتها، بل يواصلون الانصهار بداخلها ويتمسكون بإلغاء العقل والتخلى عن الفردية وكأنهما دين جديد؟

***
الإجابة الأولى الممكنة هى أن الكثير منا يعزفون عن إعمال العقل بشأن القضايا العامة، ويفضلون السير وراء غيرهم.

ربما هى ظروف الحياة القاسية التى تستنفد طاقات وقدرات الناس فى الأمور التى تخصهم وتخص أسرهم. ربما هو تعقد الكثير من القضايا العامة وصعوبة الإلمام بتفاصيلها. ربما هى الانطباعات المسبقة باستحالة بناء الرأى حول قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية دون «الخبراء والمتخصصين» الذين سرعان ما يصيرون كهنة المجتمعات المعاصرة والمتحدثين الحصريين باسم الحقيقة. ربما هو حكم الفرد الذى يزيف وعى الناس على نحو يجعلهم يسلمون بحتمية الاعتماد الأحادى على «البطل المنقذ» فى إدارة شئون الدولة والمجتمع والمواطن وبضرورة اعتناق الرأى الرسمى كصواب خالص. ربما هو تعاطف بعض الناس مع نخب المعارضة التى وإن واجهت حكم الفرد وادعت أحيانًا الالتزام بالحرية إلا أنها تريد أيضًا استتباعهم ودفعهم باتجاه رأى واحد آخر.

فى جميع هذه السياقات يختار الكثيرون بيننا الامتناع عن البحث والقراءة والتفكير فى القضايا العامة، يختارون الامتناع عن طرح التساؤلات المشروعة والمفاضلة المستقلة بين الإجابات المطروحة، ينتهى بهم الحال إلى إلغاء العقل والتخلى عن فرديتهم والانصهار فى الجموع.

الإجابة الثانية الممكنة هى أن الكثير منا يحتاجون للانصهار فى الجموع لكى يكتسبوا هوية الانتماء إلى المكان وأهله، إلى الوطن وناسه، إلى المجموعات ومقولاتها الكبرى. وفى سبيل الهوية، ولأنهم لا يرون سبلاً أخرى لاكتسابها، يقدمون العقل والفردية قربانًا على مذابح الجموع ولآلهة الرأى الواحد.

البعض يذبح العقل والفردية للتماهى مع تعريف الهوية الوطنية الذى يصنعه حكم الفرد ويحدد وفقًا له «معايير» الانضمام إلى جموعه (المواطنون الشرفاء، أهل الخير، المصريون). البعض الآخر يذبحهما من أجل الالتحاق بجموع الهويات البديلة أو المضادة (الثوريون، الديمقراطيون، المعارضون). البعض الثالث يتنازل عن إعمال العقل وعن الفردية لكى ينصهر فى جموع مدعى الصواب الخالص واحتكار الحقيقة الخالصة، ويشارك معها فى نزع المصداقية عن المختلفين.

فى جميع هذه السياقات يختار الكثيرون بيننا التسليم بالمقولات الكبرى للجموع، يختارون عدم التوقف عن الركض وراء غوغائيتها خوفًا من فقدان الهوية (الهوية المصرية، هوية الصف الثورى، هوية مقاومى السلطوية وحكم الفرد)، يختارون التماهى الكامل حتى عندما يدركون تناقض مقولات الجموع مع الحقائق والمعلومات وتعارضها مع الصالح العام، يختارون التورط فى العنف اللفظى (وأحيانًا فى العنف المادى) لإسكات الأصوات الأخرى. بل إنهم، ولأن غوغائيتهم تحتاج دومًا إلى ذبائح جديدة، يستدعون أشباه الحقائق وأنصاف المعلومات ويزعمون الاستناد إليها من جهة لاستكمال نزع مصداقية المختلفين معهم ومن جهة أخرى لإكساب جموعهم مصداقية زائفة.

***
تداخل الاحتمالين، عزوف الناس عن إعمال العقل واستعدادهم للتضحية بالفردية فى سبيل هوية جماعية، فى العديد من لحظات الجنون والصخب التى شهدتها مصر خلال الأعوام الماضية.

قبل كثيرون المقولات التبريرية لانتهاكات الحقوق والحريات سيرًا وراء من زعموا حتميتها لضمان الخبز والأمن. تماهى كثيرون مع معايير الانصهار فى جموع «المواطنين الشرفاء»، فاقتنعوا بمقولات التآمر وجعلوا من كل معارضة سلمية لحكم الفرد وللسلطوية الحاكمة فعل خيانة للوطن ومصالحه العليا. ركض كثيرون خلف غوغائية الرأى الواحد، وسلموا بوجوب الامتناع عن معارضة الحاكم الفرد دفاعًا عن الدولة وتماسكها وعن المجتمع وأمنه وعن المواطنين الشرفاء.

على الجانب الآخر، امتنع كثيرون من المنتمين لجموع الهويات البديلة عن إعمال العقل فى القضايا العامة وأهدروا قيمة الحقيقة والمعلومة والتعبير الحر والمستقل عن الرأى فى سبيل السير وراء من اختارتهم الجموع رموزًا لها، إن باسم الثورة أو الديمقراطية أو المعارضة. ولم يتوقف هؤلاء عن الركض خلف الغوغائية المضادة والمكارثية المعكوسة (أى الغوغائية المعارضة التى تواجه غوغائية الحكم، ومكارثية من يرفضون السلطوية وحكم الفرد طلبًا لسلطوية بديلة)، حتى حين ظهر بجلاء إلغاؤهما للعقل وتغييبهما للفردية وتناقضهما مع الثابت من حقائق ومعلومات. تورط كثيرون من المنصهرين فى الجموع البديلة فى استدعاء أشباه الحقائق وأنصاف المعلومات للترويج لمقولاتهم كصواب خالص وتجريد مقولات السلطوية وحكم الفرد من المصداقية كخطأ خالص أو لإلصاق اتهامات الخيانة وشق الصف الثورى والديمقراطى والمعارض بمن رفضوا الغوغائية. وهم بذلك مارسوا ذات نهج حكم الفرد، وقضوا على إمكانيات احترام الحقيقة الثابتة والمعلومة الموثوقة وقبول الرأى الآخر دون استعلاء يتبعه تسفيه.

وعلى الجانبين، لم يتورع البعض عن الحديث باسم العقل وهم يلغونه، باسم الفردية وهم يقضون عليها، باسم العلم وهم يغتالونه ويمتنعون عن مجرد البحث والقراءة والتفكير ــ يشغل التذرع الزائف بالعلم حيزًا واسعًا فى لحظة الجنون والصخب المتعلقة بوضعية جزيرتى تيران وصنافير والتى تسيطر حاليًا على الفضاء العام، وتتداول الجموع على اختلاف مواقفها عبارات مدعية من شاكلة «مؤسسات وأجهزة الدولة لديها العلم الشامل والمعرفة الكاملة وعلى من هم خارجها الصمت»، «قولاً واحدًا، ترسيم الحدود بين مصر والسعودية فى القرار الجمهورى رقم ٢٧ لعام ١٩٩٠ خطأ علمى»، « قواعد القانون الدولى والمواثيق الدولية تلزم باللجوء إلى التحكيم بشأن الجزيرتين»، وغيرها.

أحسب أن هذه هى بعض التفسيرات الممكنة لانجراف كثيرين بين ظهرانينا فى مصر إلى إلغاء العقل، والتخلى عن الفردية، والانصهار فى الجموع المكارثية (حكمًا ومعارضة) التى تقضى على كل فرصة للانعتاق من الجنون والصخب.


أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات