مصر في نظام عالمي يتشكل - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 8:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر في نظام عالمي يتشكل

نشر فى : السبت 16 سبتمبر 2023 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 16 سبتمبر 2023 - 9:05 م
المقصود بنظام عالمى يتشكل هو أن فى العالم بنى نشأت فى العقود الأخيرة آخذة الآن فى الترسخ، وبنى وعلاقات جديدة تحاول فى الوقت الحالى أن تظهر إلى الوجود فيه وأن تتبلور. بمرور الوقت وحسبما تؤول إليه البنى والعلاقات المترسخة والجديدة سيتحول النظام الدولى الذى خبره العالم فى العقود الأخيرة إلى نظام عالمى جديد. لا يوجد تمييز قاطع بين النظام الدولى والنظام العالمى. مع ذلك يمكن القول بأن النظام الدولى هو ذلك الذى تكون وحداته الأساسية هى الدول، ومنها يصدر التعاون فيما بينها. فى المقابل، النظام العالمى هو ذلك الذى تتطلع فيه الدول وغيرها من الفاعلين إلى العالم كوحدة واحدة.
مجموعة السبعة، ومجموعة العشرين، والبريكس هى مجموعات غير نظامية، تعدم الشخصية فى القانون الدولى، غير أن لكل منها اعتبارها المتباين ووزنه الفعلى فى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. قد تتحول هذه المجموعات إلى منظمات دولية تحكم العلاقات بين أعضائها اتفاقيات دولية أو قد لا تتحول، غير أن جانبا كبيرا من العلاقات الدولية، ومن المساءلة فى مبادئها وقواعدها، صارت تتمحور بالفعل حولها وإن بدرجات متباينة. منظمات إقليمية كمنظمة شنغهاى للتعاون هى أيضا من ضمن البنى الجديدة التى تشترك فى عملية التحول إلى النظام العالمى الجديد.
مبادرة الحزام والطريق الصينية، التى يمتد تطبيقها من آسيا إلى إفريقيا إلى أوروبا إلى أمريكا الجنوبية هى ليست فقط محاولة لتنشيط الاقتصاد الصينى، عبر تنشيط الاقتصاد العالمى، بل هى تؤدى هى الأخرى إلى نشأة بنية جديدة فى النظام العالمى، تعزز من مكانة الصين فيه. ولأن الولايات المتحدة هى القوة المهيمنة فى النظام الدولى ولا تريد مزاحمة من أحد على مكانتها، فهى مستمرة فى عرقلة تكون هذه البنية سواء بمقاومة انتشار تكنولوجيا الجيل الخامس من الشبكة الخلوية للاتصالات (5 جى) الذى طورته الصين مثلا، أو فى إيجاد منافس لمبادرة الحزام والطريق كالذى أعلن عنه بمناسبة قمة مجموعة العشرين فى العاصمة الهندية فى الأسبوع الماضى، ألا وهو الممر البحرى والبرى الذى يربط الهند بالخليج بالأردن وإسرائيل وصولا إلى القارة الأوروبية. هاتان هما نسختا القرن الحادى والعشرين لطريق الحرير الذى تريد الصين إحياءه فى مقابل طريق التوابل الذى تتطلع الهند إلى لعب دور رئيسى فيه. الممر البرى والبحرى المذكور هو أيضا مما ينشئ بنية جديدة تشترك فى تشكيل النظام العالمى الجديد، حتى وإن كان مفهوما أن هذا الممر تعترض تنفيذه صعوبات جمة.
• • •
المراقب للتحولات الجارية لا يملك إلا أن يلحظ قدر الفوضى فى النظام الدولى/العالمى الحالى. إلى جانب كل من منظومة الأمم المتحدة بمنظماتها وبرامجها وصناديقها، والمؤسسات المالية الدولية، والنظم المؤسسية الإقليمية ودون الإقليمية، توجد الترتيبات المذكورة أعلاه من مجموعات ومبادرات لا ينظمها القانون الدولى العام بأى شكل من الأشكال. أين تقع المجموعات والمبادرات من الأمم المتحدة التى أسبغ عليها المجتمع الدولى منذ سنة 1945 شرعية تنظيم التعاون الدولى فى حفظ السلم والأمن الدوليين وفى تحقيق التنمية فى جانبيها الاقتصادى والاجتماعى؟ آية أخرى على الفوضى الحالية هى أن أعضاء فى مجموعة العشرين التى توجه الاقتصاد العالمى هم أعضاء فى البريكس التى تسائل فى مبادئ عمل هذا الاقتصاد وقواعده! إن لم ينفتح التنظيم الدولى المؤسسى، وفى قلبه منظومة الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، ليستوعب البنى الآخذة فى الترسخ والجديدة فإنه سوف يصبح هامشيا فى النظام العالمى الذى سيهدده عندئذ التفتت فى وقت تقرب بين أطرافه تكنولوجيات الاتصال الحديثة، وللمفارقة، تعمل المبادرات الجديدة كالحزام والطريق والممر البحرى والبرى إلى تحويل أسواقه إلى سوق عالمية واحدة.
غير أنه سواء انفتح التنظيم الدولى أو لم ينفتح، فإن ثمة حاجة إلى تنظيم الصلات بين المجموعات غير النظامية المذكورة وأعضاء المجتمع الدولى الأشمل، سواء ادعت مجموعة مثل مجموعة العشرين لنفسها حق توجيه الاقتصاد العالمى، أو ساءلت مجموعة أخرى كالبريكس فى المبادئ والقواعد التى تحكم تشغيل النظام، أى فى حوكمته. التنظيم الضرورى يطال أيضا العلاقات فى داخل المجموعات بل وفى مبادرات مثل الحزام والطريق التى لا تعرف لها حوكمة. مشاركة كل دولة فى صياغة التنظيم المذكور ستحددها مواردها الملموسة وغير الملموسة، بمعنى ما يمكن أن تسهم به فى بنى النظام وفى العلاقات بين أطرافه. بعبارة أخرى، قدرتك على المساهمة العملية فى النظام هى التى تحدد أهليتك على المساهمة فى صياغة المبادئ والقواعد الحاكمة له. الوضع الداخلى لكل دولة محدد آخر لمشاركتها فى صياغة المبادئ الجديدة للنظام الآخذ فى التشكل وقواعده، وهو محصلة التفاعل بين الموارد الملموسة وغير الملموسة فى مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها. الموارد الطبيعية، والإنتاج الصناعى والزراعى، والبنية الأساسية هى أمثلة على الموارد الملموسة. المعرفة العلمية، والأفكار، والتعليم، والابتكار، والبحث العلمى، والقدرة على التخطيط، فضلا عن براءات الاختراع أمثلة على الموارد غير الملموسة.
• • •
أين مصر من الاشتراك فى تشكيل مبادئ النظام العالمى الجديد وقواعده؟ ليس واردا أن نستعرض هنا حالة كل من المتغيرات المذكورة أعلاه. يكفى أن نلقى نظرة إجمالية على الوضع الداخلى وعلى الموارد الملموسة وغير الملموسة المتوفرة لمصر فى الوقت الحالى. داخليا، مصر مثقلة بدين عام غير مسبوق لا يترك فى الميزانية مجالا لأى سياسات تنموية أو اجتماعية مؤثرة، خاصة فى ظل التضخم القياسى الذى تآكلت من جرائه القوة الشرائية للنقود فتراجعت مستويات المعيشة وارتفعت معدلات الفقر كثيرا، لا محالة، وإن لم تجمع البيانات عنها. آخر معدل منشور كان 29,7 فى المائة فى سنة 2020. معدل الادخار بائس، كان 10,8 فى المائة فى سنة 2021 عندما بلغ متوسط معدل الادخار فى العالم الـ 23,6 فى المائة. قارن معدلنا بمعدلات الهند وفيتنام والصين فى نفس السنة، وهى كانت 30,2 فى المائة و36,1 فى المائة و49,9 فى المائة على التوالى. خدمة الدين تمثل 56 فى المائة من النفقات العامة فى الميزانية الحالية. خدمة الدين الخارجى، الاقتصاد غير قادر عليها فتلجأ الدولة إلى مزيد من الاقتراض، ولأن هذا الاقتراض بعيد عن أن يكفى لخدمة الدين فهى تضطر إلى التعجل فى بيع أصولها. عندما تنشئ الدول صناديق سيادية، فإن هذه الصناديق تستثمر وتشترى الأصول فى هذه البلد أو فى تلك القارة، أو فى غيرهما. على عكس كل الصناديق، الصندوق المصرى لا يستثمر ولا يشترى. هو يبيع، متلهفا على البيع! وحتى مع هذا التلهف فهو لا يقدر على جمع الحصيلة المستهدفة بسبب عدم الاستقرار النقدى الذى يبعد المشترين والمستثمرين. التلهف فى بيع الأصول يرجع إلى أن الدولة تدرك أن مواردها الملموسة من حصيلة صادراتها من السلع الزراعية والصناعية والخدمات بعيدة جدا عن أن تفيد فى خدمة الدين الخارجى. أى غرابة فى ذلك مع تدنى معدل الادخار؟! نلحظ هنا أن تدنى معدل الادخار هو السبب فى الاقتراض والاستدانة. غير أن الاستدانة لم تفد فى نمو الإنتاج من السلع والخدمات الذى يسمح بدوره بنمو الصادرات، وبذلك بخدمة الدين الخارجى.
كيف يمكن فى هذا الوضع الاقتصادى، الإنتاجى والمالى والنقدى، أن تشترك مصر فى صياغة مبادئ النظام العالمى الآخذ فى التشكل وقواعده؟ هل يمكن الركون إلى الموارد غير الملموسة وهى كانت مما يعتد به بين موارد البلدان النامية التى صارت تسمى الآن بالجنوب العالمى؟ حالة التعليم لا تسر أحدا، يعيشها الشعب المصرى ويعرف بها. البحث العلمى وحريته كانا ضمن قضايا الحوار الوطنى، وهو ما يعنى أنهما يواجهان العراقيل رغم أهميتهما القصوى لصياغة السياسات الرشيدة التى تؤدى إلى تلبية احتياجات الناس، فضلا عن استغلال إمكانياتهم، وإلى تنمية البلاد. الإنفاق على البحث العلمى كان متوسطه 0,46 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فيما بين سنتى 1996 و2020، وإن حقق قفزة معتبرة فى هذه السنة الأخيرة مسجلا 0,96 فى المائة. ومع ذلك، ولمجرد المقارنة، أنفقت جمهورية كوريا (الجنوبية) 4,81 فى المائة وإسرائيل 5,44 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى لكل منهما على البحث العلمى فى نفس سنة 2020! مستوى التعليم والبحث العلمى، خاصة فى المجال الاجتماعى، وحرية الفكر والتعبير، تترجم كلها إلى أفكار ترفع من مستوى النقاش العام وتسهم فى رسم السياسات وإيجاد الحلول للمشاكل التى تعانى منها مصر، وتشترك بها فى صياغة المبادئ التى تحكم العلاقات بين الدول وقواعدها فى أوقات التأسيس والمراجعة. فى سنة 1945 فى مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة فى سان فرانسيسكو رأس الدكتور عبدالحميد بدوى اللجنة المعنية بالترتيبات الإقليمية، وهى التى صارت مخرجاتها الباب الثامن من ميثاق الأمم المتحدة. فى سنة 1964، بعد تصفية الاستعمار التقليدى وعند التصدى لإعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية الدولية نحو إضفاء مزيد من العدالة على التجارة الدولية وتصنيع الدول حديثة الاستقلال، إلى جانب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) نشأت منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية واختير الدكتور إبراهيم حلمى عبدالرحمن أول مدير تنفيذى لها. هل الأمل معدوم فى الموارد غير الملموسة لمصر فى الأوقات الراهنة؟ لا، هو ليس معدوما، إلا أن تنمية هذه الموارد تحتاج إلى مقاربات جديدة وسياسات ومؤسسات لرعايتها وتمكينها.
عودة إلى الموارد الملموسة، تنميتها تحتاج إلى ترتيب للأولويات وإلى سياسات جادة لإنتاج السلع والخدمات القابلة للتبادل.
تنمية الموارد الملموسة وغير الملموسة وتضافرها هو الذى سيسمح بالخروج من النفق الاقتصادى المظلم الحالى وبالمساهمة فى صياغة المبادئ الحاكمة للنظام العالمى الآخذ فى التشكل وقواعده.
من غير ذلك سنضطر لقبول ما يصيغه الآخرون وبما يعرض علينا، ولن تفيد كثيرا عضوية البريكس ولا غيرها.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات