دستور دولة النخبة - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دستور دولة النخبة

نشر فى : الجمعة 16 نوفمبر 2012 - 8:25 ص | آخر تحديث : الجمعة 16 نوفمبر 2012 - 8:25 ص

مسودة الدستور الجديد، على ما بذل فيها من جهد، تعبر عن رغبة فى «إصلاح» دولة يوليو التسطلية بإزالة ما يعوق مؤسساتها عن العمل بفاعلية، ولا تعبر بحال عن رغبة فى «تغيير» بنية النظام بتمكين المجتمع وحفظ حقوقه، على النحو المبتغى وجوده فى أعقاب الثورة.

 

●●●

 

تعددت مسودات الدستور، واختلفت بعض تفاصيل نصوصها، غير أنها - فى مجملها- أبقت البنية التسلطية للدولة، فبالرغم من تقرير الدستور مبدأ سيادة الشعب (مادة ٥ من مسودة ٢٢/١٠/٢٠١٢)، والتأكيد فى غير موضع على المسئولية المشتركة للدولة والمجتمع (المواد ٩، ١٠، ٢٨، ٦١، ٧٧ مثلا) فى حفظ النظام العام وحقوق المواطنين والأمن القومى، فإن نصوصه خلت مما يمكن المجتمع من مشاركة الدولة هذا الدور.

 

وتبدو النزعات الإصلاحية فى الدستور واضحة فى سعى المشرع إعادة تنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة بما يضمن توازنها، كالمادتين ١٢٨ و١٤٣ الهادفتين لتنظيم العلاقة بين الرئيس والبرلمان بما يضمن عدم استئثار ايهما بالسلطة، والمواد المنظمة للإعلام والصحافة (٢١٥، ٢١٦) والتى تنشئ هيئة مستقلة لإدارة الإعلام وتنظم صلاحياتها وعلاقتها بالمؤسسات الأخرى من غير أن تتناول كيفية تشكيلها وضمانات الديمقراطية والمهنية فيه.

 

ومجمل المواد على هذه الشاكلة: تهتم بتنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة بدلا من إعادة ترتيب العلاقة بينها والشعب، فأبقت المواد هذه المؤسسات بعيدة عن السيادة الشعبية، إذ منعت المحاسبة الشعبية للبرلمانيين بأن قصرت الحق فى إسقاط عضويتهم على مجالسهم دون الناخبين أصحاب الحق الأصيل (مادة ١١١)، وأوجدت بدائل تتجنب اللجوء للشعب صاحب السيادة فى حسم النزاع بين المؤسسات المختلفة (مواد ١٠٣، ١٠٤ مثلا)، ولم توجب اللجوء للاستفتاء إلا عند حل البرلمان والتعديل الدستورى، وجعلت اللجوء له فيما وراء ذلك «حقا» لرئيس الجمهورية (مادة ١٥٥)، بل لم توجب العودة للشعب فيما يتعلق بالتعديل فى أراضى الدولة، واكتفت باشتراط موافقة البرلمان على ذلك (مادة ١٥٠).

 

وفى حين جعلت المادة ٧٧ حماية الأمن القومى «واجبا على كل من المجتمع والدولة» فإن المفهوم يبقى فضفاضا، تملك الدولة دون المجتمع إمكانية تعريفه، والآليات التنفيذية لحمايته، على نحو يبقى للدولة، وبالأخص الأجهزة الأمنية فيها، شرعية للبقاء خارج إطار القانون، ويمكنها- فى ظل غياب التعريف المنضبط للأمن القومى- من التوسع فى حجب المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق عن المواطنين، متذرعة بالاستثناء الخاص بما يتعلق بالأمن القومى فى المادة ٤٣ من المسودة.

 

وتقلص المواد المتعلقة بالقوات المسلحة من مساحة السيادة المدنية، إذ تنزع من نواب الشعب صلاحية مناقشة الميزانية العسكرية، أو مناقشة ما يتعلق بتأمين البلاد، بقصر هذه الصلاحيات على مجلس للدفاع الوطنى (مادة ١٩٥)، كما تقلص من سلطان المدنيين بالنص الشاذ على وجوب تعيين وزير الدفاع من بين ضباط القوات المسلحة (مادة ١٩٧).

 

وثمة مواد أخرى ترسخ لهيمنة الدولة على المجتمع، كالمادة ١١ التى تعين الدولة واصيا على «الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع المصرى!» (على افتراض وجودها ومحموديتها)، والمادة ٢١٣ التى تفتح بابا واسعا - فى ظل عدم تحديد كيفية تشكيل الهيئة العليا لشئون الوقف- لتدخل الدولة فى الأوقاف متذرعة بالسعى لضمان الادارة الاقتصادية الرشيدة، والمادة ٥٢ التى تلزم جميع المؤسسات التعليمية «العامة والخاصة والأهلية وغيرها بخطة الدولة التعليمية وأهدافها» فى ظل انعدام الحديث عن آليات وضع هذه الخطة وضمان تعبيرها عن التنوع وعدم تبعيتها للسلطة التنفيذية.

 

وإجمالا فإن هذه المواد ترسخ وصاية الدولة على المجتمع (التى هى من أركان نظام يوليو)؛ كما تنزع عن المجتمع عمليا أى حق فى الدفاع عن نفسه إزائها (وإن كان تقرر هذا الحق نظريا)، وهو حق لابد من تنظيمه لشدة الاحتياج إليه فى القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها.

 

●●●

 

بالتوازى مع هذه المحافظة السياسية، التى تبقى صناعة السياسات بعيدا عن أيدى المواطنين وتبقى الدولة فوق الشعب، تغلب على المواد المحافظة الاقتصادية/ الاجتماعية، ومن ذلك اللجوء لصياغات عامة، مبهمة، لا تترتب عليها مسئوليات وواجبات محددة للدولة فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مواد ٥٢، ٥٦، ٥٧، ٦٠)، كما يخلو الدستور من أى مواد تبين آلية تحصيل هذه الحقوق، وكيفية قيام المجتمع بواجبه فى الدفاع عنها إزاء السلطة إذا ما هى تجاوزت وأهملت الحقوق على النحو الذى كان قائما، وهى المشكلة التى تعاملت معها بعض الدساتير الحديثة (كدستور البرازيل) بالنص على آليات تحصيل هذه الحقوق.

 

ويبدو انحياز المشرع للنخب واضحا فى تعريفه لمستحقى الحقوق، كما فى تأكيده على حق ممارسة الرياضة (مادة ٦١)، والذى انشغل فيه المشرع بالتأكيد على واجب الدولة فى «اكتشاف الموهوبين رياضيا ورعايتهم» (وهى مهمة القطاع الخاص بالأساس، ومقصده البطولة) عن توكيد مسئوليتها فى إيجاد البنية التحتية التى توسع من قاعدة المشاركة (وهو واجب الدولة لو انحازت لحقوق الأغلبية لا النخب)، وكذلك فى حديثه عن الأزهر والذى ضمن فيه لا استقلال المؤسسة وإنما استقلال شيخها، بتحصينه ضد العزل وإن كان عن طريق مؤسسته (مادة ٤).

 

لم يخل الدستور - مع ذلك - من إيجابيات، كإشارته لفكرة «الثروات الوطنية» التى يحظر تحويلها لملكية خاصة (مادة 16)، وتخفيف القيود الخاصة بتكوين الجمعيات والأحزاب (مادة 48)، غير أنها إيجابيات لا تناقض هذا الطابع النخبوى للدستور، إذ تقتصر الثروات الوطنية على مياه النيل والموارد المائية، على نحو يتجاهل المشكلات الاجتماعية المتعلقة بخصخصة الساحل الشمالى بكامله على سبيل المثال، كما يستثنى تخفيف شروط التكوين فى المادة 48 النقابات العمالية، ولا يضمن تعددية النقابات.

 

●●●

 

تأتى كتابة هذا الدستور فى أعقاب ثورة مارس المصريون فيها بغير وسيط سلطانهم السياسى، وتتوازى مع حركة احتجاج اجتماعى- ربما تكون الأوسع فى التاريخ الحديث- تصر على تحصيل الحقوق والاقتصادية والاجتماعية وكسر احتكار النخبة للدولة، وتأتى بنية الدستور - مع ذلك - شديدة المحافظة، على نحو يعبر بدقة عن الانفصال القائم بين الساسة - على توجهاتهم المختلفة الإسلامية والمدنية- والمجتمع، ويؤكد استمرار الصراع لا بين الإسلاميين والمدنيين، وإنما بين المواطنين ودولة الخبراء أو النخبة، والتى ورثها شعب مصر من النظام المخلوع.

 

التعليقات