عودة ظهور الأشباح ( أقصوصتان) - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 6:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة ظهور الأشباح ( أقصوصتان)

نشر فى : الخميس 16 ديسمبر 2010 - 11:44 ص | آخر تحديث : الخميس 16 ديسمبر 2010 - 11:48 ص

 صيحتنا البعيدة

أتذكر الآن ذلك بوضوح على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين سنة على حدوثه، فقد هاتفنى بالأمس، على غير انتظار، وفى ساعة متأخرة من الليل، أحد الأصدقاء الذين عايشوا تلك اللحظة المُلتبَسة البعيدة، وكان صوته مثقلا بالحيرة وبعض الرعب، أخذ يذكرنى بتلك الصيحة وأصدائها فى ذلك اليوم، وظل يكرر سؤالى كأنه يلقى السؤال على نفسه الشاردة المفزوعة: إذا ما كان ممكنا أن تكون تلك الصيحة وأصداؤها قد ظلت كامنة هناك لأكثر من ثلاثين سنة، وتنتظر شروطا ملائمة لتعاود لتتحرر وتعاود الانطلاق! أم ماذا؟ أم ماذا؟ ظل يكرر السؤال..

 


منذ سبع وثلاثين سنة، كنا طلابا متمردين ومفعمين بروح النقد الجامح وإن لم نتخل عن طبع المزاح والمرح اللصيق بتلك الفترة من زهرة العمر، وبتلك الخلطة العجيبة من الجدية والمزاح سهرنا نتسامر ونتباحث فيما يجرى من أحوال بلدنا والناس، ووجدنا أنفسنا ننحدر من قمم الرفض الصارمة إلى سفوح الحزن والرغبة فى التفريج، نُجمِع على أن هذه أحوال تُبكى، ونمثّل أننا نشرع فى البكاء كالأطفال، لكن ما نلبث حتى ننفجر ضحكا من أنفسنا على أنفسنا. نضحك ونقول إن المكان غير مناسب للبكاء، وكذا الوقت، ونستدرج أنفسنا بأنفسنا، فنختار ونحن نضحك مكانا فيه نبكى! نعُيِّن المقابر كأجمل مكان للبكاء! ونحدد صباح الجمعة، لنبكى «بكاءً صافيا أصيلا، براحتنا، بين أحبابنا الموتى، وفى صمت القبور»!

مؤكد أننا لم نكن فى أعماق قلوبنا نتضاحك، لأننا فوجئنا ببعضنا بعضا، صباح الجمعة، فى المكان الذى تتجه إليه أقدام كل الداخلين إلى المقابر، لانصباب كل شوارعها فيه، ولانفساحه قليلا، ووجود مقاعد الموزايكو المظللة بالأشجار حوله، ذاك الميدان الصغير الذى يتوسطه نُصُب الشهداء من جبس متواضع ركيك التصميم، تظاهرة صفوف مقابره الجيرية الملتحمة، ذات الطابق الواحد والنسق الواحد، كأنها قطارات متوقفة مهجورة، تغمرها شمس دافئة عطوف، وتحوطها مدافن تشع بالبياض والسكينة.

ويبدو أننا كنا خجلين من بعضنا البعض إلى حد بعيد، ومرتبكين حيال مزحتنا التى انقلبت إلى غرابة، لأننا انطلقنا نهرج.. يطارد بعضنا بعضا ونحن نتصايح، نلعب صياد الحمام بين المقابر كأطفال مجانين، وندخل فى لعبة الاختباء ومحاولة التعرف على بعضنا البعض بالأصوات لا أكثر.

ولابد أننا كنا خائفين، خوف كل البشر من المقابر، حتى ونحن نأتنس باللعب، لأننا اندفعنا نرفع أصواتنا أعلى ما يكون ونحن نتنادى، وكل من يسمع نداء باسمه يسمّى من يناديه. تجأر أصواتنا فى السكون المشمس، ويرجِّعها الصدى برنين مخوِّف، فنهيج تناديا حتى تختلط الأصداء بالأصوات. لكننا نكتم أنفاسنا فى لحظة ونحن نتلفت فى مخابئنا مأخوذين..

لقد انطلق على غرة منا صوت من الأصوات يهتف، فاندفعنا لا شعوريا نردد الهتاف وراءه، مرة واحدة، لم نكررها، بينما هجمت أصداء الهتاف تتراجع بكثافة آتية من كل صوب، وكأن الموتى فى مراقدهم قد فزعوا يرددون جملة الهتاف: «تسقط الحالة الهباب»، فترددها الأصداء باختزال: «باب باب باب باب»!

على الهاتف بالأمس ،أبديت استغرابى وبعض الرعب عندما عرفت من صاحبى سبب رعبه واستغرابه ودافعه لمكالمتى بعد غيبة، وفى مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، فمنطقة مقابر بلدتنا فى يوم العاصفة الترابية الأخيرة، حملت إلى البيوت والناس من حولها مع عويل الريح وصفرة التراب حشدا من الأصوات تصرخ: باب باب باب باب! تماما كالأصداء التى باغتتنا فى أعقاب هتافنا أو صيحتنا البعيدة تلك!

 


عرفت من مُهاتفى أنه سرت مع الرهبة بين الناس أقاويل تردد أن أرواحا لضحايا مغدورين محبوسة فى المقابر، كانت تستصرخ من يفتح لها ثغرات فى محابسها لتخرج، وقيل بل هى عفاريت أهاجتها وأبهجتها الرياح، فراحت تعبث بالبشر وتتلاعب بهواجسهم. فهل كانت تلك أشباح أصواتنا التى تركنا هتافها وأصداءها هناك؟ منذ أكثر من ثلاثين سنة؟
«ربما» قلت لصاحبى على الهاتف بحزن وحيرة، ووجدته يردد ورائى بصوت أسيف فى عمق اللى: «ربما»!



مفقود القلعة
دائما بالقرب من القلب القديم للمدينة، تنتصب القلعة على تلة مرتفعة أو فوق جبل. فهى الملاذ الأخير لمدن لم تأمن أبدا شر الغزاة، يأتون من الشمال البارد، أو من الصحراء الحارة. يجتاحون، كأسراب الجراد، الأسواق والبساتين والحارات. فتكون القلعة حصن الناس الأخير. يفرون إليها، ثم يغلقون أبوابها المصفحة الثقيلة، وينزلون المتاريس. وتبدأ الحرب الأخيرة، حرب الدفاع عن آخر الحصون.

لم تعد التجريدات تأتى، ولا الإغارات المباغتة، وبقيت القلاع شواهد على زمن حوشى، فهل انتهت الأزمنة الحوشية؟ الآن يؤمها السياح، ويغشاها الدارسون واللاهون من أبناء البلد، ويقتنص التجار فى جنباتها الفرص، فيقيمون مسرحا تجاريا هنا، وكافيتريا هناك، وقد كان الرجل مكلفا بنقل تموين كافيتريا القلعة ذاك الصباح. مئات من علب الكوكاكولا والبيرة وصناديق البسكويت والسجائر. ولأن القلعة لم تكن دروبها تكف عن الدوران والصعود، فلم يكن يلائم دروبها إلا أن تكون درجًا، وكان عصيا أن تُنقل كل هذه البضاعة إلا على ظهر دابة تُنقِّل أقدامها على الدرجات درجة درجة، ومع كل درجة تئن وتميل، لكنها تواصل الصعود، يقودها بعصا صغيرة ذلك الرجل الضئيل الحافى ذو الجلباب الحسير، وقد فاجأته مجموعة السياح، ووراءها حفنة من أولاد البلد اللاهين، عند منعطف شحيح الضوء من التفافات الدرج.

حمار صغير ضئيل، وحَمَّار، وخُرج يفيض بالعلب الملونة فى ضوء القلعة الداخلى الفاتر المنساب من الفتحات الحجرية الضيقة المستطيلة، أزمنة عديدة فى منظر طريف واحد، وهاصت مجموعة السياح الشماليين ولمعت عيون عصابة أولاد البلد.

أخذت آلات التصوير تومض من هنا ومن هنا ومن هناك. وكحمَّار متحضر وحِمار طيب، توقفت حزمة الأزمنة عن الصعود حتى يصور الضيوف ما يروق لهم. ثم اختلطت بالأجانب عصابة الأولاد وتقدمت المشهد، راحوا يمدون أياديهم فى الخُرج على ظهر الحمار متضاحكين سائلين الرجل عما يحمل: «كوكاكولا؟ وبسكويت؟ ومياه معدنية؟». ثم أربكوه فيما بدا عتابا له على أنه لا يقوم بواجب الضيافة تجاه الأغراب!

ابتسم وجه الرجل البسيط المرتبك وهو يقدم لأقرب السائحات منه علبة كوكاكولا، فارتفعت صيحات التهليل الممتنة والمُستحسنة، عندئذ أمتدت أيادى الصُيَّع تنتزع من الخرج وتقدم للضيوف بسخاء: «تفضل. تفضلى. تفضلى. تفضل»، وفى ارتباكة تاريخية كان الرجل البسيط يبتسم ابتسامة خجلى، بينما الأولاد يدسون أياديهم وينتزعون من الخُرج ما يقدمونه للأيادى المرحة «وأنا». «وأنا». «وأنا». وظلت الأيادى تعاود الامتداد.

لا بأس. بدا للحظة أن الرجل حسبها برغم ارتباكه، لكن فى نهاية الأمر وضح أن الحسبة كانت خاطئة تماما عندما انفض عنه الجمع الصاخب بمرح، وقد اختلط السياح بأولاد البلد، وإذ بالرجل يتهاوى مُقعيا بين أرجل حماره وفوضى عشرات العلب الفارغة، لا يمتلك سداد ثمنها للمورد أو صاحب الكافيتريا فى أعلى طوابق القلعة، أبدا لا يمتلك.

وفى مكان كهذه القلعة العتيقة، ملاذ الناس الداثرين، وحصن الجنود القدامى، وسدة حكم سلاطين التاريخ، ثمة مئات الأبواب لمغارات، وحبوس، وغرف مئونة، ودهاليز لا تُعرف الآن على وجه اليقين ألغاز تشابكها، ولا أسرار الخروج منها. وحيثما يكون هناك قرار بالهرب فى هذه المتاهة، فإن رعب المطاردة يستولى على الهارب، ويُفزِع الدابة. ثم تتجلى أشباح القلعة بعد شهور: عفريت أشعر حافى القدمين فى أسمال من بقايا ثياب بلدية، يظهر فى أكثر من مكان فى وقت واحد، وحُمُر مسحورة تلوح كالسراب هنا وهناك أمام العيون المدهوشة، برهة خاطفة، وتختفى.
محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .