التنمية الرثة: رأسمالية ليبرالية أم رأسمالية المحاسيب «1-2» - سمير أمين - بوابة الشروق
الثلاثاء 21 مايو 2024 3:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التنمية الرثة: رأسمالية ليبرالية أم رأسمالية المحاسيب «1-2»

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2013 - 1:08 م

أولا: رأسمالية ليبرالية أم رأسمالية المحاسيب؟

يعتمد نمط الرأسمالية الليبرالية المطروح ــ بل المفروض بناء على الادعاء بأنه «لا بديل له» ــ على سبعة مبادئ تعتبر صائبة لجميع مجتمعات الكوكب.

-1 ضرورة لا حياد عنها لإدارة الاقتصاد على قاعدة الملكية الخاصة. وذلك لأن المؤسسات الخاصة هى الوحيدة التى تعمل طبقا لمقتضيات المنافسة الشفافة، ولأن هذه الممارسات تئول إلى نتائج صالحة للمجتمع ككل؛ إذ إنها تضمن معدل نمو ملحوظ بالتزامن مع استخدام رشيد للموارد وصرف العائد المناسب لكل عامل من عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال والطبيعة).

وبالتالى، ففى فرضية أن الدولة تملك موجودات ورثتها من النمط «الاشتراكى المنحوس» ــ سواء كانت ممتلكات إنتاجية أم مؤسسات مالية أم أراضى زراعية أو صحراوية ــ فلا بد من خصخصة هذه الموجودات فورا.

2 - ضرورة لبرلة سوق العمل، والتخلى عن تحديد حد أدنى للأجور. أما قوانين تنظيم العمل فلا بد من اختزالها إلى تلك القواعد التى تضمن احترام مبادئ الأخلاق فى العلاقات بين صاحب العمل والعامل ولا غير. وبالتالى فلا بد من احترام سلم الأجور الناتج عن التفاوض الحر بين الطرفين، وكذلك قبول تقسيم الدخل القومى بين عوائد العمل ورأس المال الملازم لحرية سوق العمل.

3 - لابد أيضا من خصخصة إدارة الخدمات الاجتماعية (التعليم والصحة وتوفير المياه والكهرباء والاسكان والنقل والمواصلات). فإذا كانت الدولة والهيئات المحلية قد وفرت هذه الخدمات فى الماضى، فلا بد من التخلى عن هذا المبدأ العام. بحيث يصبح المستفيد من الخدمة هو الذى يتحمل ثمنها وليس المواطن المجهول من خلال الضرائب.

4 - لا بد من تخفيف العبء الضريبى إلى الحد الأدنى المطلوب لتغطية مسئوليات السيادة (الدفاع والأمن الداخلى) وأن تظل نسب الضرائب معتدلة بحيث لا تصبح عائقا فى سبيل المبادرات الخاصة، وأن يُضمن لها عائد عادل تستحقه.

5 - لا بد من تسليم إدارة الائتمان للمصالح الخاصة؛ وضمان التحرك الحر للعرض والطلب، ومن ثم تلاقيهما «الطبيعى» فى سوق نقدى ومالى رشيد.

●●●

6 - لا بد من ضمان التوازن فى الموازنة العامة بحيث لا يحدث عجز عالٍ فى ظروف عارضة ومؤقتة. فإذا كانت الدولة تعانى من عجز هيكلى موروث من ممارسات الماضى غير الصائبة فلا بد من القيام بالإصلاح المطلوب الذى من شأنه أن يخفف فورا عبء العجز. وإلى أن يتحقق هدف الإصلاح فلا مناص من أن تلجأ الدولة إلى الاقتراض بشرط أن تتوجه الدولة إلى الأسواق المالية الخاصة الوطنية والخارجية.

ويُنظر إلى هذه المبادئ الستة على أنها تنطبق ليس فقط على المستوى الوطنى بل أيضا على مستوى العلاقات الدولية والإقليمية (على سبيل المثال فى إطار الوحدة الأوروبية). فلا بد أن يتمتع رأس المال الخاص بالحرية فى تعاملاته الدولية، وأن يُعامل المال الأجنبى على قدم المساواة مع المال الوطنى.

وتشكل هذه المبادئ معا جوهر مذهب الليبرالية (الأصولية). بيد أننى سوف أشير هنا إلى التناقض بين هذه المبادئ وواقع الأمور، وذلك ــ باختصار ــ لأن حرية الأسواق المعمَّمة لا تحقق توازنا بين العرض والطلب،  وذلك حتى فى الفرضية المتطرفة الخيالية بأن تسود الشفافية فى معاملات السوق. يُضاف إلى ذلك أن النظرية الاقتصادية الليبرالية لم تبرهن بالدليل العلمى على أن مثل هذا التوازن المتوقع حدوثه من شأنه أن يحقق أيضا الحل الأمثل اجتماعيا. وعلى خلاف كل هذه الأقوال فإن حرية الأسواق تئول فقط إلى انتقال النظام من وضع اختلالى إلى وضع اختلالى آخر دون أن تميل الحركة إلى انجاز التوازن المزعوم. ويرجع السبب فى اتجاه هذه الحركة من اختلال إلى اختلال آخر إلى فعل صراع المصالح الاجتماعية والوطنية؛ وذلك هو العامل الذى يتجاهله المذهب الليبرالى.

وبالمثل، فإن الفرضيات التى تقوم على أساسها الطروحات الليبرالية تصف عالما خياليا لا علاقة له بالواقع القائم، وهو رأسمالية الاحتكارات المعممة.

وقد توصلت، بناء على هذه الملاحظة، إلى الاستنتاج بأن الليبرالية نظام غير قابل للاستقرار، وأن انفجاره ــ الذى يتجلى فى أزمة متفاقمة  ــ كان متوقعا.

وبالتالى فإن تطبيق مبادئ الليبرالية على مجتمعات التخوم التى ترضى بالخضوع لها لن ينتج سوى قيام رأسمالية المحاسيب التى تلازم تكريس دولة كومبرادورية فى خدمتها، ولن يُسمح بإقامة دولة وطنية تعمل من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية قابلة للدوام. فلا بديل هنا لهذا النمط من رأسمالية المحاسيب التى يصاحبها نمطٌ من التنمية الرثة، ولا غير.

وتجربة مصر شاهد، وعلى ذلك.

ثانيا: رأسمالية المحاسيب ونمط التنمية الرثة فى مصر (1970 ــ 2013)

سارت جميع الحكومات منذ تولى السادات زمام الحكم إلى يومنا هذا ــ أى فى ظل رئاسة مرسى، وأيضا حكومة حازم الببلاوى ــ فى تطبيق مبادئ الليبرالية، وذلك دون أدنى تردد أو تشكيك فى صوابها. والنتائج التى ترتبت على ذلك واضحة فى واقعنا المصرى، وهى التالية:

1 ــ قام السادات بتفكيك المشروع الناصرى لإقامة دولة وطنية تنموية. وأعلن ذلك منذ بداية توليه السلطة، فصرح للمحاور الأمريكى أنه يسعى إلى رمى الناصرية والاشتراكية وكل الكلام الفارغ هذا فى سلة المهملات، وطلب معونة أمريكا من أجل تحقيق هذا الهدف. وبالطبع وفرت الولايات المتحدة هذه المساعدة المطلوبة. وفى هذا الإطار تم «بيع» كثير من ممتلكات الدولة من مؤسسات صناعية ومالية وتجارية وأراض زراعية وصحراوية.

ولكن، لصالح مَنْ تم هذا «البيع»؟ لقد كان لصالح «رجال أعمال» قريبين من السلطة: مثل كبار الضباط، وكبار الموظفين، وتجار أغنياء ــ ولاسيما هؤلاء التجار المنحازين للإخوان المسلمين الذين فتح السادات باب عودتهم من المنفى فى الخليج (وقد عاد هؤلاء حاملين ثروات هائلة). كما تم جزء من هذا «البيع» لصالح عرب الخليج وشركات أجنبية أوروبية وأمريكية.

ويُلاحظ أن الصفقات تمت بأسعار تافهة لا علاقة لها بالقيمة الحقيقية للأصول المعنية.

وهكذا تكونت طبقة جديدة من «الأغنياء» المصريين والعرب. وهذا النوع من التكوين الاجتماعى يستحق تماما ان يُطلق عليه اسم «رأسمالية المحاسيب».

ويلى ذلك عدد من الملاحظات:

(أ) غيَّرت الملكيات المحوَّلة للقوات المسلحة تماما طابع المسئولية التى كانت تمارسها هذه القوات سابقا فى إدارة بعض قطاعات المنظومة الانتاجية. فبينما كان الجيش الوطنى فى الماضى يدعم هذه المؤسسات (المصانع الحربية) بصفته مؤسسة تابعة للدولة، أصبحت الحقوق فى الإدارة شيئا آخر تماما قائما على تكريس حقوق الملكية الخاصة. كما أن بعض الضباط من ذوى المناصب العليا قد «اشتروا» ممتلكات أخرى، ولاسيما تجمعات تجارية وأراضٍ حضرية وتجمعات سكنية فخمة وقرى سياحية.

(ب) يُلقى الرأى العام المصرى على هذه الممارسات صفة «الفساد»؛ الذى يمكن أن يُحل على أرضية الأخلاق؛ مفترضا أن وجود نظام قضائى صالح هو الأداة القادرة على التخفيف من الفساد. بل إن هناك أجنحة من اليسار تميِّز بين الرأسمالية المنتجة-المُرحَّب بها-والرأسمالية الطُفيلية المرفوضة. وهؤلاء جميعا لا يدركون أن رأسمالية التخوم فى إطار سيادة الليبرالية لا يمكن أن تكون مختلفة عن نمط رأسمالية المحاسيب-فليست هذه الطبقة برجوازية فى سبيل التكوين كما يزعم البنك الدولي؛ اذ إن ظهور هذه الطبقة يفترض وجود عامل دولة كومبرادورية فى خدمتها.

●●●

 (ج) تشكلت الثروات المصرية والعربية والأجنبية المذكورة من خلال تملك موجودات قائمة دون إضافة تُذكر لقدرة الاقتصاد الانتاجية. فالعملية انتهت إلى تكريس وضع مؤسسات احتكارية خاصة أصبحت تسيطر على الاقتصاد المصرى بعيدا عن خطاب المنافسة الشفافة!

ثم إن النصيب الأكبر من هذه الثروات يخص موجودات عقارية: (قرى سياحية «مارينات»، مجمعات سكنية فاخرة محصنة وراء أسوار مغلقة على نمط أمريكا اللاتينية، أراضٍ صحراوية مخصصة مبدئيا للتوسع الزراعى). بيد أن ملاك هذه الأراضى ينتظرون أن تقوم الدولة بالاستثمارات الضخمة المطلوبة لجعلها صالحة للمزارعة كى يبيعونها؛ دون أن تُخصم تكاليف الاستثمار من أرباحهم الخيالية المقبلة. فهى عملية مضاربة سهلة ليس إلا.

2 - سعت الدولة إلى تدعيم الوضع الاحتكارى لرأسمالية المحاسيب من خلال إمدادها بالقروض المصرفية السهلة، حتى صارت هذه القروض-ومنها تلك التى استُخدمت لتوفير مال الشراء-تمتص معظم أموال البنوك، وذلك على حساب تمويل صغار ومتوسطى المنتجين الحقيقيين.

3-تم تدعيم هذه المواقع الاحتكارية أيضا من خلال دعم مولته موازنة الدولة، وذلك بمبالغ ضخمة. ومن ذلك، على سبيل المثال، الدعم المخصص لاستهلاك بعض الصناعات الكبرى (الصلب، الكيماويات، الأسمنت، الألومنيوم، الغزل والنسيج) من البترول والغاز والكهرباء. بيد أن «حرية الأسواق» أتاحت لهذه الصناعات أن ترفع أسعارها حتى تكون قريبة من أسعار المواد المستوردة البديلة. وبالتالى صار الدعم مصدرا لمزيد من الأرباح الخيالية. ويُلاحظ إذن أن منطق هذا الدعم لا علاقة له بما كانت عليه وظيفة الدعم سابقا، والذى استفاد منه القطاع العام فى مقابل قبوله أسعارا منخفضة لصالح المستهلك.

4 - عانت الأجور الحقيقية بالنسبة إلى أغلبية العمال والموظفين أصحاب الكفاءات المتوسطة من تدهور متواصل نتيجة حرية سوق العمل وقمع نشاط النقابات والعمل الجماعى، حتى أصبح مستوى هذه الأجور فى مصر أدنى مما هو عليه فى بلاد ذات متوسط مماثل فى الدخل القومى للفرد. وبمعنى آخر فهناك تلازم بين ارتفاع الأرباح الاحتكارية من جانب وتواصل تفاقم الفقر من الجانب الآخر.

5 - أدى النظام الضرائبى إلى تكريس التفاوت الاجتماعى، وذلك من خلال رفض مبدأ الضريبة التصاعدية. وظل العبء الضرائبى خفيفا بالنسبة إلى الاغنياء، حسبما يطالب البنك الدولى، دون اعتبار إلى أن التفاوت المعنى تجلى فى صعود الأرباح الاحتكارية لا غير.

6 - لم تنتج مجموعة الممارسات الليبرالية المذكورة سوى معدل نمو معتدل-حوالى 3 بالمائة سنويا، وصاحبه بالتالى صعود البطالة. وإذا كان معدل النمو قد ارتفع عن هذا الحد الأدنى فى بعض السنوات، فإن ذلك لم ينتج إلا عن التوسع فى بعض الصناعات الاستخراجية (النفط)، أو نتيجة ظروف أتاحت رفع أسعار منتجات هذه الصناعات، أو ارتفاع إيرادات قناة السويس، أو توسع أنشطة السياحة، أو زيادة تحويلات العاملين فى الخارج. أى أن ارتفاع معدل النمو أحيانا لم يكن ناتجا عن تقدم فى القدرة الإنتاجية للاقتصاد.

 7 -كذلك لم تتح هذه السياسات تخفيف عجز الموازنة العامة وخفض عجز ميزان التجارة الخارجية، بل أدت إلى تدهور متواصل لقيمة الجنيه المصرى، وفرضت استدانة صاعدة؛ وهو الأمر الذى أتاح لصندوق النقد الدولى فرصة فرض شروط قاسية لتنفيذ مبادئ الليبرالية.

 

خبير اقتصادى ورئيس المنتدى العالمى للبدائل بداكار

سمير أمين خبير اقتصادي ورئيس المنتدى العالمي للبدائل بداكار
التعليقات