البيوت حجارة تحكى - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 12:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البيوت حجارة تحكى

نشر فى : الإثنين 18 سبتمبر 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : الإثنين 18 سبتمبر 2017 - 9:45 م
نشرت جريدة البيان الإماراتية مقالا للكاتب «رشاد أبو داود» ذكر فيه أن المكان حجارة تسمع وتحكى. الإنسان مجموعة أمكنة. حيث تسكن يسترك البيت، وأنت تتولاه بالنظافة والرعاية. تهتم بصحته كما صحتك. تغضب إن علاه الغبار، وتحزن إن هدت منه طوبة الريح. تريده جميلا كما ابنك أو ابنتك.
صورته من صورتك، وجدرانه لوحات يكتب عليها الزمن قصة من قصص حياتك. أما أشجاره فهى التى تتفيأ ظلها وتأكل من ثمرها وتعطر أنفاس روحك بوردها. البيت وطن مصغر، أو قل حصتك من الوطن. أعود إلى نفسى فأجدنى مجموعة أماكن.
بيت حيث ولدت، بيت حيث تربيت، بيت حيث درست، بيت حيث عملت، وبيت حيث أنا الآن. فى كل بيت حكاية. ولكل حياة نكهة. توزعت حكاياتى، أقصد بيوتى، بين يافا الأم، ونابلس وعمان ودمشق والكويت والإمارات والبحرين. يستقبلك البيت فاتحا ذراعيه، يحضنك بابتسامة اللون، حاجة الفراغ للإنسان، وتوق الحجر للبشر. تملأه حياة فيملؤك حبا وسترا وأمانا.
وحين ترحل، يبكيك. يتعرى مجددا، لا أثاث ولا ستائر ولا أنفاس. يصمت، يخبئ أسرارك بين ضلوعه. وحين تغلق الباب لآخر مرة تترك سنوات من عمرك، تأتمنه عليها وتتمنى له ساكنا جديدا حنونا يحييه مجددا.
البيوت أيضا تهرم وتموت، ليس الكائنات الحية فقط. لكن الإنسان هو الذى يحييها، وهو الذى يميتها. الحياة بإعمارها والموت بهجرها. اعترفت ذات مرة أنى كدت أقتل بيتا لى. هجرته سنوات بدون روح، لم أسكنه ولم أدع أحدا يسكنه. كل ما فعلته أنى دفنت فيه ذكريات جميلة لأيام صعبة. كانت أرضا خالية من الحياة. لكن الأشجار التى زرعت حواليه أحيتها. زيتون وتين وعنب وخوخ ورمان وتوت وكرز وتفاح وعناب.
بين كل شجرة وشجرة ثلاثة أمتار، وعلى الحواف سور من الورد. بقيت وفيا للشجر وللبيت. رعاها فى غيابى جارى عاشق الأرض والزرع، الفلاح الذى ظلمناه كغيره من فلاحينا، فسعى إلى رزقه من خلال دكان صغيرة، تكاد بضاعتها لا تتجاوز الخمسمائة دينار، ومن خلال ما يزرع ويأكل من الأرض، أرض البيت.
وأمام الدكان، يلتقى أهل الحى مساء يتسامرون ويحكون قصص زمان، يتسامرون ويشكون لبعضهم صعوبة الحياة فى هذا الزمن. لكنى، أعترف أننى لم أكن وفيا للبيت الجبلى، وبقدر إخلاصى للشجر، كنت طيلة سنين جاحدا بحق الحجر. لم أكن أعلم أن الحجر أيضا يهرم ما لم تمسسه يد بشر، لكأنه يحس ويتنفس.
قررت أن أعتذر له، أن أمسح عنه غبار الأيام وأعيده أبيض كما فى عز شبابه. جدران البيت العتيق كانت شاحبة، عليها تجاعيد سنين الوحدة وخربشات أولاد صغار كبروا، البيت أيضا كالبشر يفتك به الوجد ويقتله صقيع الغياب.
على مدخل البيت استقبلتنا على اليسار ياسمينة تتدلى على رأس الباب، كخصلة شعر على كتف صبية، وعلى اليمين زيتونة من عشر زيتونات عمرها ثلاثين سنة، نقتسم أنا وجارى محصولها وبطعمها وبلذة أن تأكل من ما تزرع فى أرضك، لا من ما تشتريه من السوق. فى الداخل ثمار مما لذ وطاب، وزقزقة عصافير وخرير ماء بحرة شامية، أصلها ظل عالقا فى ذاكرتى منذ كنت أدرس فى الشام.
السروة التى نبتت وحدها شقت جذورها الصخر، صارت أطول من البيت، تحبها العصافير لكأنها أمها، تضع فى حضنها بيضها، وعلى أوراقها تكتب الأغانى المخضرة. السروة لا تثمر فقط تحب وتبقى وفية.
الليمونة التى كانت حباتها تذبل وتموت صغيرة، قام جارى بتركيبها، هل يعرف جيل اليوم ماذا يعنى أن تركب شجرة؟!، أن تجرى لها عملية جراحية بفتح جرح فى جذعها أو أحد أغصانها، وتزرع فيه عودا من شجرة أخرى، وتلف عليها قماشا أو قطعة خيش، فيكبر العود ويصبح أكبر من باقى الأغصان ليثمر كما أمه؟!، ليتنا نعود إلى أمنا الأرض، نرويها ونزرعها فتمنحنا الحياة. ليتنا نمنح الحياة للبيوت، لنظل نشم رائحة الذكرى.
ليتنا نصفى نوايانا وننقيها من شوائب الأنانية والنفاق. فالغايات الخبيثة غابات موحشة، شجر يأكل شجرا، نار تحرق نارا. ما أوحش الإنسان حين يصبح غابة! تذكرت البيت وأنا أصغى لفيروز تغنى من كلمات الأخوين الرحبانى، ملائكة الزمن الجميل:
بيتى أنا بيتك وما إلى حدا
من كتر ما ناديتك وسع المدى
نطرتك ع بابى وع كل البواب
كتبتلك عذابى ع شمس الغياب
وأتذكر أولئك الذين هجروا وشردوا من بيوتهم فى فلسطين وسوريا والعراق. كم يتشظى المهاجر، وكم قطعة يتمزق، بل أى قوة تستطيع أن تعيده إليه!!

 

التعليقات