الفتى الذي لم يستسلم - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 12:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفتى الذي لم يستسلم

نشر فى : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:50 م
أومن بأن قراءة سيرة ذاتية كتبت بصدق، وبتفاصيل إنسانية مؤثرة، أفضل بكثير من قراءة بعض كتب التنمية البشرية، التى تقدم نصائح مجردة، والتى توهمك بأن النجاح عند أطراف أصابعك، وبأن هناك طريقة واحدة للتغلب على المشكلات، بصرف النظر عن الاختلافات الفردية، والظروف المتباينة.
فى كتب السيرة نبض الحياة الحقيقية، وصورة الواقع بدون تجميل، وحدود الضعف الإنسانى، قبل حدود القوة والتفوق. فيها دراما كاملة الأركان، وصراعات مستمرة لا تنتهى، كما أن كل قصة تحمل طابعها الشخصى، وتخرج منها الأفكار والدروس، بطريقة طبيعية، بدلا من أن تفرض عليها، وكأنها معادلات رياضية معروفة النتائج.
من هذه النوعية، استمتعت بكتاب «الفتى الذى لم يستسلم قط»، الصادر عن دار عصير الكتب، من تأليف الطبيب الجنوب إفريقى، سودانى الأصل، إيمانويل تابان، ومن ترجمة سراج سراج.
الكتاب يحكى فى سرد ممتع ومشوق، تتخلله بعض الصور والخرائظ، سيرة تابان العجيب، الذى هرب فى سن السادسة عشرة، من جحيم الحرب الأهلية فى جنوب السودان، إلى إريتريا وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وموزمبيق، حتى وصل إلى جنوب أفريقيا.
ليست المغامرة فى النجاة من الحرب بين شمال وجنوب السودان، التى حصدت الآلاف من الشباب والأطفال، ولكن فى أن ينجح صبى بلا هوية فى الانتقال من دولة إلى أخرى، جائعا ومتشردا، ومتجاوزا تجارب السجن والمطاردة، وقسوة النوم فى الشوارع والغابات، وأخطار الحشرات والثعابين، ثم يبدأ رحلة التعليم الذى انقطع عنه، فيتفوق ويدخل كلية الطب، ويصبح من أبرز أطباء الأمراض الباطنة، ثم يتخصص مرة أخرى فى علاج الأمراض الصدرية، وتصبح له إسهامات طبية مميزة، فى مواجهة وباء الكورونا، وفى إنقاذ الكثيرين من مرضاه، الذين كانوا ينتظرون الموت.
قطعة مدهشة من الحياة، كتبت بدون تجميل أو تزويق، وبدون ادعاء للبطولة، وبحب عميق للوطن (جنوب السودان)، وللأم الصابرة القوية، التى دفعت ابنها للتعليم، بل ووجدت فيه أمل الأسرة، لإنقاذها من الفقر. ولكن ظروف الحرب الأهلية، لم تمكن إيمانويل، الذى امتلك استعدادا ممتازا للدراسة، ودرجة عالية من الدأب والمثابرة، إلا أن يدرس لمدة أربع سنوات فقط فى بلده، ثم يشهد حربا دموية بين القوات الحكومية، وميليشيا المتمردين، ويتعرض للاختطاف من القوات الحكومية، فيعذبونه ويجبرونه على تغيير ديانته، وفى لحظة ضيق وألم، يبدأ رحلة الهروب، ويختار أبعد نقطة، بالهجرة إلى جنوب أفريقيا.
الكتاب حافل بالمواقف الدرامية والتفاصيل، التى يمكن أن تصنع فيلما مثيرا ومؤثرا، وإيمانويل يمتلك قدرة فائقة على وصف عالمه الصغير، الذى سيتسع بصورة خارقة. فقد عاشت الأسرة فى قرية فقيرة، مليئة بالأكواخ، ثم عادوا جميعا إلى العاصمة جوبا.
الأم أطلقت على ابنها اسم إيمانويل ماليش تابان: «ماليش» تعنى «اعتذار»، وكلمة تابان معناها «معاناة»، لأن إيمانويل ولد فى فترة ساءت فيها علاقة الأم بوالده، الذى سرعان ما طلقها، فاضطرت الأم للخدمة فى مدرسة، ولبيع الخمر والشطائر.
لا يخجل إيمانويل فى الحديث عن المهن التى عمل فيها، وعن قيامه أحيانا بالسرقة، كما يقدم صورة كارثية للحرب، وللانتهاكات التى تعرض لها السكان، من طرفى الصراع.
فى رحلة الهروب أيضا مواقف غريبة وعجيبة، وحشد من الشخصيات الشريرة والطيبة، فهناك من ساعده من رجال الدين فى الإرساليات الكاثوليكة، وهناك من تجاهله، وهناك من سرق فلوسه القليلة، حتى استطاع شراء جواز سفر فى كينيا. ورغم السجن والتشرد، والتهديد بالقتل، فإن هدفه ظل دائما أن يتعلم، بعد أن أدرك فى وقت مبكر، أنه لن ينجو إلا بالتعليم.
كان يمكن أن يقنع إيمانويل بانتظار إعادة التوطين فى دولة مجاورة فى معسكرات اللاجئين، ولكنه اختار الدراسة، ولم يكن ذلك سهلا فى جنوب أفريقيا، فقد اضطر أن يتعلم اللغة الإنجليزية، وأن يواجه الفقر والجوع، وأن يتغلب أيضا على العنصرية، فى بلد كان قد ولد من جديد، فى سنوات التسعينيات من القرن العشرين.
من أجمل مواقف الكتاب وصول الطبيب إيمانويل إلى أمه وإخوته، وعودته بعد غياب عشر سنوات إلى جنوب السودان، الذى أصبح دولة مستقلة، ثم إصرار إيمانويل على أن يبنى بيتا لأمه، ونجاحه فى مساعدة 14 من أبناء وبنات الأسرة للتعلم، بل إنه حاول أن يبنى مصنعا فى بلده لتعبئة المياه المعدنية، ولكنه فشل، بسبب الفساد وسوء الإدارة.
حصاد الرحلة كلها يلخصها إيمانويل فى الشغف والإصرار والثبات، وفى رفض أن يقبل بدور الضحية، أو أن يستسلم لظروفه، مثلما يفعل الكثيرون.
حصادها فى الإيمان بالتعليم، ورفض الفوضى والحرب والجهل والخرافة والفساد السياسى، وعدم نسيان الأصدقاء، وكل الذين عاونوه فى رحلة الصعود، ثم عدم التوقف أبدا، فلا نهاية للعمل، ولا نهاية للتعلم والدراسة.
بالأمس، كان جائعا للطعام، ومنذ أن امتلأ بطنه، أصبح جائعا للمعرفة.
لم ينس إيمانويل أن يشخص أيضا أمراض أفريقيا، التى تتمتع بثروات هائلة، ولكنها تدار وتحكم بصورة فاسدة وغير رشيدة، ولم ينس أن يتذكر درسا تعلمه بضرورة السعى، وعدم الالتفات إلى المنافسين، أو إلى الكارهين.
قال له يوما الأسقف الإيطالى ساندرى، الذى ساعده على النجاح: «الحصان الذى يتصدر السباق، لا ينظر إلى من خلفه، كل ما يعنيه أن يهتم بأمره فقط، وأن يفعل أفضل ما بوسعه، ودون أن يعرف إن كان سيفوز أم لا، وهذا ما يجب أن تفعله، أدر سباقك الخاص، ولا تلتفت إلى ما يفعله الآخرون».
سار إيمانويل على النصيحة، وبذل جهدا لا يفتر، ثم تزوج وأنجب أربع بنات، وتبنى طفلة خامسة، لن يعانوا أبدا مثله. قرر أخيرا أن يحكى بلا خجل.
بدأ كتابه بعثوره مصادفة فى طفولته على أموال فى الغابة، وانتهى إلى أن الثروة الحقيقية هى العلم والعمل.
فيا لها من سيرة عظيمة البساطة، وعظيمة العمق والمغزى.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات