فى مشهد سياسى مكتظ بالتوتر الشخصى والاقتتال المعنوى بين مرشحى الرئاسة وتنافس محموم على الناخب المصرى، تدور الانتخابات الرئاسية فى مصر حول من يحكمها فى السنوات الأربع العجاف القادمة، وبعد عام ونصف العام من الصراع الداخلى بين العسكر من ناحية، والمدنيين من ناحية أخرى، والتيار الدينى من ناحية والليبراليين من ناحية أخرى، وبين الجيل الذى تربى على ثقافة السلطوية من ناحية والشباب الثورى من ناحية أخرى،بعد انتخابات برلمانية أفرزت برلمانا لافتا للنظر ومثيرا، وفى إطار الشغف الوطنى بوجود رئيس ديمقراطى، كنا نتوقع حملات انتخابية رئاسية تعكس روح الثورة المصرية وتعكس القيم الكبرى التى أتت بها، وهى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، كنا نتوقع تنافسا شريفا مؤسسيا بين المرشحين، وكنا أيضا نتوقع برامج تعكس الحاجة إلى رؤية مستقبلية تقود مصر إلى الدور المركزى الإقليمى الذى تستحقه، والذى خبا طوال ثلاثين عاما، كما كنا نتوقع حملة انتخابية ومناظرات تثقيفية تعليمية ترتقى بالذوق العام وتعلى من المعلومات السياسية والاقتصادية والثقافية لدى المصريين، بيد أن ما يحدث الآن يخلق درجة عالية جدا من عدم الرضا والإحباط السياسى، والذى يمكن أن يترجم فيما بعد إلى عدم اهتمام بالنتائج.
●●●
ويمكن تقسيم المرشحين إلى فئات، أولئك الذى يعبرون عن التيار الدينى من ناحية، أولئك الذى يعبرون عن العسكريين من جهة أخرى، أولئك الذى يعبرون عن أحزاب هامشية لا وزن لها لدى المواطن المصرى، وبعض المستقلين، هناك من يعبرون عن النظام السلطوى وينتمون إليه، وهم الغالبية العظمى من المرشحين، وهناك اثنان على الأكثر يعبران عن الثورة المصرية. ونظرا لأننا نجرى انتخابات رئاسية تعددية لأول مرة فى تاريخ مصر، فإنه لم يتم تقليص العدد من ثلاثة عشر إلى عدد أقل كما يحدث فى الكثير من الدول التى يتنافس على رئاستها حزبان أو ثلاثة على الأكثر. من هنا، وُجد هذا العدد الكبير وانحصرت المنافسة الحقيقية بين ثلاثة أو أربعة مرشحين يمثلون التيار الدينى من ناحية والنظام السابق بشقيه العسكرى والمدنى من ناحية أخرى. أما دور الباقين، فيتمحور فى تشتيت الأصوات، وهكذا، فإن نتيجة الانتخابات الرئاسية سوف تتحدد بمعيارين لا علاقة لهما بالبرامج الانتخابية ولا بشخصية الناخب، وإنما طبقا إما للانتماء الحزبى أو شبكة التربيطات للحزب الوطنى الديمقراطى السابق ورجال الأعمال المرتبطين به، وبملاحظة ما يدور اليوم بين المرشحين يمكن أن نصل إلى بعض الملامح السلبية، والتى تنذر بمخاطر جمة على مستقبل مصر وحياة المصريين. فمن ناحية، هدد المرشح الذى ينتمى إلى النظام السابق وخاصة إلى الجناح العسكرى منه باستخدام القوة المسلحة ضد معارضيه فى حالة فوزه وأن الاستخدام المفرط للقوة فى العباسية ما هو إلا «بروفة» لضبط المواطنين، كما أنه فى أحاديث كثيرة تتعلق بالترشح للرئاسة لا يقبل النقد أو الاختلاف فى الرأى، فما بالنا لو صار رئيسا للدولة، وفوق ذلك فقد أقسم بأنه سيعيد الأمن إلى الشارع فى خلال 48 ساعة، والسؤال: لماذا لا يقوم بذلك لمصلحة مصر دون أن يكون رئيسا للدولة؟ وكذلك مرشح آخر، يقسم بأنه خلال المائة يوم الأولى سيحل مشكلات مصر الاقتصادية، وأنه سيستخدم اتصالاته الشخصية لقيام أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول بتقديم مليارات الدولارات من المعونات إلى مصر، والسؤال كيف يحق لمرشح لرئاسة مصر أن يعد بزيادة القروض دون أن يقدم رؤية لبناء مصر الجديدة المعتمدة ذاتيا على نفسها؟ وهاك مرشح آخر، يدفع إلى إعادة النظر فى الاتفاقيات المعقودة بين مصر وإسرائيل دون أن يحدد منذ البداية البدائل المتاحة والممكنة فى حالة ما إذا ترتب على ذلك توتر وصدام، وهو نفسه الذى لا يرى فى إيران وتركيا خطرا على مصر ومستقبلها، على الرغم من أن إيران تسعى لإنشاء الإمبراطورية الفارسية وتركيا ترنو إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية، ولن يتأتى لهما ذلك إلا على حساب الدور الإقليمى المركزى لمصر، وبينما يعتمد مرشح على تعبئة الفلول وتنظيماتهم ورجال أعمالهم يعتمد مرشح آخر على التعبئة الدينية للأنصار والمتعاطفين دون الترويج لرؤية أو برنامج عملى مقسم إلى مراحل ومهام قابلة للتطبيق.
إن الصراع على كرسى وعرش مصر اليوم ليس صراعا بين رؤى مختلفة ومبادرات متباينة، ولكنه صراع نفوذ وقوة بين أطراف مشتبكة غير متوافقة، ففى النظم الديمقراطية، يمكن للمتنافسين أن يشكلوا فريقا كرئيس ونائب يعرضان على الناخبين، أما فى مصر، فإن الصراع المحتد بين المرشحين يخلق سدودا بينهم ولا يترك جسورا للتعاون بينهم، وقد فشل واضعو الإعلان الدستورى فى فهم وإدراك معنى الثورة المصرية والتحول الديمقراطى فى مصر، حينما تركوا للرئيس المنتخب حرية اختيار نائبه أو نوابه خلال ستين يوما من توليه السلطة، وهكذا، تمت العودة مرة أخرى إلى التأكيد على قوة رئيس الدولة وحقه المطلق فى فرض نوابه على الشعب المصرى، والذى لا يستطيع أن يسائلهم. وكان ينبغى فرض وضع أسماء النواب إلى جوار مرشح الرئاسة لكى يختار الشعب المصرى الرئيس ونوابه مرة واحدة.
●●●
والمراقب للصراع على روح مصر، لابد أن يلاحظ، بامتعاض، الدور الذى يلعبه الإعلام كله، حكوميا وخاصا، على وجه الخصوص، فى توجيه الرأى العام نحو عدد محدود جدا من المرشحين، والذى أتوقع فى خلال الأيام القليلة السابقة على التصويت أن تتمحور الحملات الإعلامية حول مرشح أو مرشحين فقط مما يدمر مصداقية الإعلام ويحد من حياديته المزعومة ويشكك فى انتماءاته وتفضيلاته السياسية، ولا تبقى مصادر أخرى للناخب لكى يشكل رأيه السياسى فى اختيار رئيسه، فالحملات الانتخابية مليئة بالبذاءات والسطحية والتجريح الشخصى والحملات الإعلامية بعيدة عن الحياد والموضوعية والتجرد، وحديث المقاهى لا يكفى لاختيار رئيس فى حجم مصر.