طبول الوطنية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طبول الوطنية

نشر فى : الجمعة 20 يناير 2017 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 20 يناير 2017 - 10:10 م
أدرك جيدا أهمية منازعة المجتمع المدنى للسلطوية الحاكمة فى ادعائها امتلاك الحق الحصرى للحديث باسم الوطنية المصرية والأمن القومى، تلك المنازعة التى اتسمت بفاعلية واضحة واكتسبت جماهيرية صريحة فى قضية جزيرتى تيران وصنافير. أدرك ذلك جيدا، فمواجهة السلطوية تستدعى العمل على قلع جذور استعلائها باتجاه المجتمع والمواطن بداعى الانتصار للوطنية وتجريدها من مكارثية فرض الرأى الواحد وإسكات المعارضين تحت يافطة مقتضيات الأمن القومى. ولا شك لدى فى حضور العديد من الفرص للالتفاف الجماهيرى حول المعارضين ما إن يثبتوا فساد اتهامات السلطوية المتكررة لهم بانعدام الوطنية، بل ويقلبوا الآية هنا بوضع الحاكم ونخبته تحت مغبة الاتهام المضاد بالتفريط فى الأرض والسيادة.

غير أن ثمن انزلاق المجتمع المدنى إلى هذه المساحة الشعبوية يظل بحسابات القيم الديمقراطية فادحا. وأشد ما يخيفنى فى هذا السياق هو التراجع الكارثى للاهتمام بقضايا الحقوق والحريات فى الفضاء العام على وقع طبول الوطنية، وتجاهل معارضى السلطوية لضرورة حشد قبول جماهيرى واسع لدفاعهم عن ضحايا القمع من مظاليم فى السجون ومختفين قسريا ومسلوبى حرية التنقل بالمنع من السفر وحق التصرف فى الممتلكات الشخصية إلى المنظمات غير الحكومية التى تشن عليها هجمة شرسة تراوح أهدافها بين الإلغاء والتصفية وبين فرض هيمنة الآلة الأمنية. ولنا فى محدودية اهتمام المجتمع المدنى بمسألة إدراج دائرة من دوائر الجنايات ١٥٠٢ شخص من المتحفظ على أموالهم وفقا لقرارات اللجنة الحكومية «لحصر وإدارة أموال جماعة الإخوان المسلمين» على قوائم الإرهابيين ــ دليل بيِّن على انزواء قضايا الحقوق والحريات فى الفضاء العام.

***

فالأمر يعود إلى فبراير ٢٠١٥ عندما مرر رئيس الجمهورية مستخدما اختصاصه التشريعى حينها القانون (قرار بقانون) رقم 8 لسنة 2015 المسمى بقانون «تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين» والذى أقره البرلمان فى ٢٠١٦ دون مناقشة. وللأسف، لم يلتفت كثيرون فى المجتمع المدنى للصياغات المطاطية التى يتضمنها القانون وتقبل التطويع للانتقام من غير المرضى عنهم حكوميا، ولا للعصف المنظم بضمانات الحقوق والحريات وإجراءات التقاضى العادل الذى يحويه. غاب النقاش حول القانون فى الفضاء العام خلال العامين الماضيين، ثم استفقنا جميعا قبل أيام على وقع القائمة الطويلة «للإرهابيين» والعقوبات الشاملة المفروضة عليهم.

فى أعقاب إقرار البرلمان لقانون الكيانات الإرهابية والإرهابيين، نبهت فى مقالات سابقة إلى خطر الصياغات المطاطية التى تقبل التطويع لإنزال العقاب بمواطنين لم يثبت عليهم التورط فى جرائم إرهابية أو فى ممارسة للعنف وتصنفهم السلطوية الحاكمة كأعداء لأسباب أخرى. نبهت أيضا إلى تفريغ القانون لحق الناس فى التجمع السلمى وفى تكوين الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية وكذلك الحريات الصحفية وحرية التعبير عن الرأى فى ظل استحالة التعريف القانونى المنضبط لصياغات مثل «الإخلال بالنظام العام»، و«تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمته للخطر»، و«منع إحدى مؤسسات الدولة أو السلطات العامة من ممارسة أعمالها»، و«الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعى أو الأمن القومى»، وغيرها. ولأن مواد القانون تربط بين جرائم الإرهاب المفترض بها التورط فى ممارسة العنف واستخدام القوة المسلحة فعلا أو تمويلا وبين «الدعوة بأية وسيلة» إلى الاخلال بالنظام العام وغيره من الاتهامات مطاطية الصياغة، فإنها تعنى وضع الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية التى تصنفها السلطوية الحاكمة «ككيانات معادية» وكذلك المعارضين السلميين والمدافعين عن الحقوق والحريات تحت مغبة الإدراج على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين.

نبهت إلى أن مواد القانون تنظم اختصاص وإجراءات الإدراج على «قوائم الإرهاب» بالنص على اختصاص دائرة أو أكثر من دوائر الجنايات بمحكمة استئناف القاهرة بنظر طلبات الإدراج على القوائم المقدمة من النائب العام والفصل فيها خلال سبعة أيام من تاريخ التقديم المستوفى للمستندات اللازمة. وهنا يبدو العصف بضمانات الحقوق والحريات وإجراءات التقاضى العادل ممنهجا وكاسحا. فالقانون لم يجعل الإدراج على القوائم عملا لاحقا على ثبوت تورط الكيانات المعنية والأفراد المقصودين فى جرائم إرهاب وفقا لإجراءات قضائية نزيهة وشفافة، بل حوله إلى ما يشبه التعاون الإدارى بين جهتين قضائيتين هما النيابة العامة ودوائر الجنايات. والقانون لم يحدد طبيعة ونوعية المستندات اللازمة لتقديم طلبات الإدراج، وترك الأمر «إداريا» لمكتب النائب العام ولدوائر الجنايات بمحكمة استئناف القاهرة. والقانون لم يمكن الكيانات المعنية والأفراد المقصودين من التداخل فى مسألة الإدراج على القوائم قبل الانتهاء منها، ونزع عنهم من ثم الحق المنصوص عليه دستوريا وقانونيا فى دفع الاتهامات ومناقشة الأدلة (أدلة الثبوت) وتقديم ما قد يدحضها. والقانون أحال حق «ذوى الشأن» فى الطعن على الإدراج على قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين إلى ما بعد صدور قرارات الإدراج واختص محكمة النقض (الدائرة الجنائية) بالنظر فى الطعون دون تحديد فترة زمنية للفصل فيها. والقانون رتب طيفا واسعا من الآثار الفورية التالية للإدراج على القوائم والتى يقضى بتنفيذها الفورى دون استشكالات قضائية أو انتظار للطعون المقدمة أمام محكمة النقض ولنتائج الفصل فيها، وتتراوح الآثار هذه بين وضع الأفراد المدرجين على قوائم المنع من السفر وترقب الوصول وإلغاء جوازات السفر وتجميد الأموال وبين فقدان شرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولى الوظائف والمناصب العامة والنيابية.

***

على الرغم من كون قانون «تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين» يمثل أداة طيعة للغاية فى يد السلطوية الحاكمة لتعقب وإنزال العقاب بمعارضيها والعصف بمبادئ سيادة القانون، لم يعره كثيرون فى المجتمع المدنى اهتماما حقيقيا. باستثناء بضعة بيانات تعد على أصابع اليد الواحدة، لم يجتهد دعاة الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات لتنبيه الرأى العام لخطورة مواد وأحكام القانون ولبناء رفض شعبى له تمهيدا للمطالبة بتعديله. وما يقال فى شأن القانون رقم ٨ لسنة ٢٠١٥، ينبغى أن يثار فيما خص بعض تعديلات قانون العقوبات (المادة ٧٨) وقانون الجمعيات الأهلية الذى مرره البرلمان مؤخرا (ولم يفعله بعد رئيس الجمهورية) وقانون التظاهر الذى أسقطت المحكمة الدستورية العليا مادة وحيدة من مواده وتركته قائما بإلغائه الممنهج للحق فى التعبير الحر عن الرأى والتجمع السلمى. وما يقال فى شأن القوانين التى مررتها السلطوية بين ٢٠١٣ واليوم، ينبغى أن يثار أيضا بشأن الإحالة المستمرة للمدنيين إلى القضاء العسكرى وقمع أجهزة الحكم المتصاعد للحراك العمالى والنقابى والتعقب الأمنى للمنظمات غير الحكومية المستقلة.

جميع هذه القضايا هى قضايا حقوق وحريات رئيسية، وتراجع الاهتمام بها على وقع طبول الوطنية يخصم من فرص الحشد الواعى للناس لمنازعة السلطوية وتطوير معارضتهم لها إلى بحث عن بدائل ديمقراطية.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات