دماء في الرمال - العالم يفكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 12:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دماء في الرمال

نشر فى : الجمعة 20 أغسطس 2021 - 9:15 م | آخر تحديث : الجمعة 20 أغسطس 2021 - 9:15 م
نشر مركز بروجيكت سينديكيت مقالا للكاتب جيفرى ساكس يتناول فيه تسبب الثقافة السياسية الأمريكية فى حروب فاسدة فى العالم النامى سواء فى الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية أو آسيا نتج عنها دمار وجراح لم تلتئم إلى يومنا هذا.. نعرض منه ما يلى.
كانت جسامة فشل الولايات المتحدة فى أفغانستان مذهلة. إنه ليس فشل الديمقراطيين أو الجمهوريين، بل هو فشل باق دائم للثقافة السياسية الأمريكية، انعكس فى افتقار صناع السياسات فى الولايات المتحدة إلى الاهتمام بفهم المجتمعات المختلفة. والأمر برمته مطابق للتوقعات تماما.
الواقع أن كل تدخل عسكرى أمريكى فى العالم النامى فى العصر الحديث تقريبا انتهى إلى فساد. من الصعب أن نفكر فى أى استثناء منذ الحرب الكورية. فى ستينيات القرن العشرين والنصف الأول من السبعينيات، حارَبَـت الولايات المتحدة فى الهند الصينية ــ فيتنام، ولاوس، وكمبوديا ــ وانسحبت فى النهاية منهزمة بعد عشر سنوات من المذابح البشعة. ويتقاسم اللوم عن هذه النتيجة الرئيس الديمقراطى ليندون جونسون، وخليفته الجمهورى ريتشارد نيكسون.
فى ذات السنوات تقريبا، نَـصَّـبَـت الولايات المتحدة حكاما مستبدين فى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وأجزاء من أفريقيا، وكانت العواقب وخيمة ودامت عقودا من الزمن. لنتأمل هنا ديكتاتورية موبوتو فى جمهورية الكونجو الديمقراطية بعد اغتيال باتريس لومومبا بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية فى أوائل عام 1961، أو المجلس العسكرى السفاح بقيادة الجنرال أوجوستو بينوشيه فى شيلى بعد الإطاحة بسلفادور أليندى فى عام 1973 بدعم من الولايات المتحدة.
فى ثمانينيات القرن العشرين، فى عهد رونالد ريجان، عاثت الولايات المتحدة فسادا فى أمريكا الوسطى بحروب الوكالة التى كان الهدف منها إحباط أو إسقاط حكومات يسارية. وحتى يومنا هذا لم تلتئم جراح المنطقة.
•••
منذ عام 1979، شعر الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا بوطأة حماقة وقسوة السياسة الخارجية الأمريكية. بدأت حرب أفغانستان قبل 42 عاما، فى عام 1979، عندما دعمت إدارة الرئيس جيمى كارتر سرا الجهاديين الإسلاميين لمحاربة النظام المدعوم من الاتحاد السوفييتى. وسرعان ما ساعد المجاهدون المدعومون من وكالة الاستخبارات المركزية فى استفزاز الغزو السوفييتى، الأمر الذى أدى إلى انزلاق الاتحاد السوفييتى إلى صراع منهك، بينما دفع أفغانستان إلى ما صارت إليه من دوامة من العنف وإراقة الدماء دامت أربعين عاما.
فى مختلف أنحاء المنطقة، أسفرت السياسة الخارجية الأمريكية عن إحداث تشوهات دائمة متنامية. فى الاستجابة للإطاحة بشاه إيران فى عام 1979 (دكتاتور آخر نَـصَّـبَته الولايات المتحدة)، سَـلَّـحَـت إدارة ريجان الدكتاتور العراقى صَـدّام حسين فى حربه ضد الجمهورية الإسلامية الوليدة فى إيران. وأعقب ذلك إراقة الدماء بشكل جماعى وحرب كيميائية دعمتها الولايات المتحدة. أعقب هذه الوقائع الدموية غزو صدام للكويت، ثم حربا الخليج بقيادة الولايات المتحدة، فى عام 1990 ثم فى عام 2003.
•••
بدأت الجولة الأخيرة من المأساة الأفغانية فى عام 2001. بعد شهر بالكاد من الهجمات الإرهابية التى وقعت فى الحادى عشر من سبتمبر/أيلول، أصدر الرئيس جورج دبليو بوش الأمر بغزو أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة للإطاحة بالجهاديين الإسلاميين الذين دعمتهم الولايات المتحدة فى السابق. ثم أتى خليفته الديمقراطى الرئيس باراك أوباما، الذى لم يكتف بمواصلة الحرب وإضافة المزيد من القوات، بل أمر أيضا وكالة الاستخبارات المركزية بالعمل مع المملكة العربية السعودية للإطاحة بالرئيس السورى بشار الأسد، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية سورية شرسة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وكأن كل هذا لم يكن كافيا، أمر أوباما حلف شمال الأطلسى بالإطاحة بالزعيم الليبى معمر القذافى، الأمر الذى أفضى إلى عشر سنوات من عدم الاستقرار فى ليبيا والدول المجاورة لها (بما فى ذلك مالى، التى تزعزع استقرارها بسبب تدفقات المقاتلين والأسلحة من ليبيا).
•••
تشترك هذه الحالات ليس فقط فى فشل السياسات، بل ترجع كل منها أيضا إلى اعتقاد مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية الراسخ بأن الحل لكل تحد سياسى هو التدخل العسكرى أو زعزعة الاستقرار بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية.
ينبئنا هذا الاعتقاد بتجاهل نخبة السياسة الخارجية الأمريكية المطلق لرغبة البلدان الأخرى فى الهروب من الفقر المدقع. حدثت معظم التدخلات العسكرية الأمريكية وتدخلات وكالة الاستخبارات المركزية فى بلدان تناضل من أجل التغلب على الحرمان الاقتصادى الشديد. ولكن بدلا من تخفيف المعاناة وكسب التأييد الشعبى، تقوم الولايات المتحدة عادة بتفجير البنية الأساسية الضئيلة التى يمتلكها البلد الذى تستهدفه، فى حين تتسبب فى فرار المهنيين المتعلمين للنجاة بحياتهم.
إن مجرد نظرة سريعة على الإنفاق الأمريكى فى أفغانستان يكشف لنا مدى غباء سياستها هناك. وفقا لتقرير حديث صادر عن المفتش العام الخاص المكلف بإعادة إعمار أفغانستان، استثمرت الولايات المتحدة ما يقرب من 946 مليار دولار خلال الفترة من 2001 إلى 2021، ورغم إنفاق ما يقرب من تريليون دولار، لم تـفـز الولايات المتحدة إلا بِـقِـلة من القلوب والعقول.
إليكم السبب. من أصل 946 مليار دولار، ذهب مبلغ 816 مليار دولار بالكامل، أو 86%، للإنفاق العسكرى على القوات الأمريكية. ولم ير الشعب الأفغانى سوى أقل القليل من المبلغ المتبقى (130 مليار دولار)، حيث ذهب مبلغ 83 مليار دولار إلى القوات الأمنية الأفغانية. وأُنفِـقَـت 10 مليارات دولار أخرى أو نحو ذلك على عمليات حظر المخدرات، بينما ذهب مبلغ 15 مليار دولار إلى وكالات أمريكية عاملة فى أفغانستان. بهذا لم يتبق سوى مبلغ هزيل قدره 21 مليار دولار لتمويل «الدعم الاقتصادى». ومع ذلك، لم يسفر قسم كبير من هذا الإنفاق إلا عن أقل القليل من التنمية على الأرض، إن كان أى قدر من التنمية حدث حقا، وذلك لأن البرامج فى حقيقة الأمر «تدعم مكافحة الإرهاب، وتعزز الاقتصادات الوطنية، وتساعد فى تطوير أنظمة قانونية فَـعّـالة ومستقلة ويسهل الوصول إليها».

باختصار، وصل أقل من 2% من إنفاق الولايات المتحدة فى أفغانستان، وربما أقل كثيرا من 2%، إلى الشعب الأفغانى فى هيئة بنية تحتية أساسية أو خدمات للحد من الفقر. كان بوسع الولايات المتحدة أن تستثمر فى المياه النظيفة والصرف الصحى، والمبانى المدرسية، والعيادات، والاتصال الرقمى، والمعدات الزراعية والإرشاد الزراعى، وبرامج التغذية، والعديد من البرامج الأخرى لانتشال البلاد من براثن الحرمان الاقتصادى. لكنها بدلا من ذلك تخلف من ورائها بلدا حيث يبلغ متوسط العمر المتوقع 63 عاما، ومعدل الوفيات بين الأمهات 638 لكل 100 ألف ولادة، ومعدل تقزم الأطفال 38%.
•••
ما كان ينبغى للولايات المتحدة أن تتدخل عسكريا فى أفغانستان أبدا ــ ليس فى عام 1979، ولا فى عام 2001، ولا خلال السنوات العشرين التالية. ولكن بمجرد وصولها هناك، كان بوسعها، بل كان من الواجب عليها، أن تعمل على تعزيز أفغانستان أكثر استقرارا وازدهارا من خلال الاستثمار فى صحة الأمهات، والمدارس، والمياه النظيفة، والتغذية، وما إلى ذلك. كانت مثل هذه الاستثمارات الإنسانية ــ وخاصة التى يجرى تمويلها بالمشاركة مع بلدان أخرى عبر مؤسسات مثل بنك التنمية الآسيوى ــ لتساعد فى إنهاء إراقة الدماء فى أفغانستان، وغيرها من المناطق الفقيرة المحرومة، واستباق أى حرب فى المستقبل.

مع ذلك، لا يدخر القادة الأمريكيون جهدا فى التأكيد للجمهور الأمريكى على أننا لن نهدر أموالنا على مثل هذه التفاهات. الحقيقة المحزنة هى أن أهل الطبقة السياسية الأمريكية ووسائل الإعلام يحتقرون شعوب البلدان الأكثر فقرا، حتى فى حين يتدخلون بلا هوادة وبكل تهور فى هذه البلدان. بالطبع، يحتقر كثيرون من أهل النخبة فى أمريكا فقراء أمريكا ذاتها على نحو مماثل.
فى أعقاب سقوط كابول، تُـلقى وسائل الإعلام الجماهيرية فى الولايات المتحدة، كما هو متوقع، بالمسئولية عن فشل الولايات المتحدة فى أفغانستان على الفساد غير القابل للإصلاح هناك. الواقع أن الافتقار إلى الوعى الذاتى فى أمريكا مذهل. وليس من المستغرب، بعد إنفاق تريليونات الدولارات على الحروب فى العراق وسوريا وليبيا وغيرها، أن تعجز الولايات المتحدة عن إظهار أى نتيجة لجهودها سوى دماء فى الرمال.

النص الأصلي

التعليقات