ثمن ثورة - فيليب رزق - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 7:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثمن ثورة

نشر فى : الإثنين 21 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 21 يناير 2013 - 9:04 ص

طلب منى النزول عند آخر كشك على الطريق الدائرى الذى يربط شرق القاهرة بغربها. وبعد أن أنزلنى السائق هناك، لم أر أحدا فى المنطقة. هبطت درجات السلم الإسمنتية المؤدية إلى حى يحمل اسم عزبة لم يكن لها وجود أبدا. هناك، وجدت محمود يجلس على مقهى لا يبعد أكثر من عدة أمتار. أخبرنى أنه انتظرنى بعض الوقت لكنه شعر بالبرد فنزل أسفل الطريق. سرنا معا إلى منزله، لكن ببطء لأن محمود يعرج فى مشيته، وتساءلت إن كان قد صعد هناك بخطواته المتعثرة تلك أم أنه قال هذا من باب الأدب لا أكثر. عندما انتهينا من لقائنا، رأيت ألما فى عينيه. كان قد أخبرنى فى وقت سابق من المساء أنه أخذ المسكِّن، الذى يدوم تأثيره ليومين، ويجعله قادرا على المشى والعمل. ومحمود عامل بناء، يعمل باليومية. وقد وضعه سكنه، على بعد أمتار من الطريق السريع الذى يتجاوز القاهرة القديمة باتجاه التخوم الشاسعة للبناء المستمر فى القاهرة «الجديدة»، فى المكان المناسب لعامل بناء. لكن هذا ما تنتهى عنده ضربة حظه. فقد اختفى ابنه أحمد فى يوم زيارتى نفسه قبل عام. وأثناء المقابلة، أخبرنى محمود بأن أحمد كان يعرج بنفس طريقته.

 

•••

 

يمكننى فقط تخيل اليوم الذى شارك فيه أحمد فى المعركة ضد قوات الأمن المركزى وجنود الجيش الذين قتلوه ذلك اليوم خارج مقر مجلس الوزراء فى 17 ديسمبر 2011. كان أحمد قد عاد للتو إلى القاهرة بعد أن فقد عمله فى الإسكندرية قبلها بيومين، مثل كثيرين غيره. فقد تلقى الاقتصاد المصرى، الذى يعتمد بصورة متزايدة على الأجانب الباحثين عن الاستمتاع، ضربة قوية مع التراجع الشديد فى أعداد السائحين. ولزم الناس الذين يسيرون ماكينة السياحة بيوتهم بلا مورد. وتوجه أحمد إلى خطوط الجبهة القريبة من ميدان التحرير بحثا عن مستقبل. وأتخيل أن عدم معرفته بالمكان وظروف خطوط المعركة جعلته فى وضع سيئ أمام مهاجميه المسلحين والمدربين. حاول أحمد الفرار من المذبحة غير المعلنة، وهو يجاهد بقدمه اللعينة. لم يكن الصبى سريعا بالقدر الكافى، فأصيب بطلق نارى وقبض عليه وتعرض للتعذيب وقتل فى النهاية. وألقى آسروه بجثته فى النيل. لم يكن أحمد يحمل ما يكشف عن هويته ذلك اليوم وأضيف إلى قائمة المختفين ـ أولئك الذين أكلتهم الثورة. لكن أبويه بحثا عنه حتى عثرا عليه ـ من بين متاهة الأوراق والأكاذيب والمسالك القانونية المسدودة. وقد تمكنا من التعرف على جثته المنتفخة والمتفحمة عن طريق الملابس التى كان يرتديها ذلك اليوم والتى وجدوها فى شنطة بلاستيكية.

 

تصدى شخص ضعيف مثل أحمد لجهاز الدولة الضخم وهذا من روح هذه الثورة. إنه شعب فى مواجهة نظام المفروض أنه يمثلنا، ويقرر نيابة عنا، ويحقق لنا الرفاهية، بينما يفعل العكس تماما كلما أمكنه.

 

وشأن كثير من المقاتلين، تظل دوافع أحمد ورغباته غير معروفة؛ فهذا الشخص سيلتزم الصمت إلى الأبد. وبكل ما أملك من أمانة، أكتب هذه الكلمات الواهنة، التى كان يمكن أن يقولها لكن لم تعط له الفرصة أبدا.

 

•••

 

عندما عثر أبو أحمد وأمه الثكلى أخيرا على جثة ابنهما، أصابتهما الصدمة. توجه محمود إلى مكتب وكيل النيابة وقد فقد أى سيطرة على أعصابه، «لا يمكن أن أدفن ابنى بهذه الطريقة». كان قد رأى للتو جثة أحمد بعد ستة وثلاثين يوما من البحث. لم تكن تلك جثة غريق، كما قال له المسئولون فى المشرحة. ابن محمود قُتل. وقال له الموظف أن عليه أن يدفن ابنه وحسب لأنه «يتعذب» منذ سبعة عشر يوما وأن يثق بالشهادة التى ستثبت وفاته: تقرير الطب الشرعى. و هكذا مهدت التقاليد إلى تبرئة أفراد أجهزة الدولة من الجرائم التى ارتكبوها. وبرغم مرور عام، لم تصدر بعد تلك الوثيقة واختفى سجل وصول جثة أحمد إلى قسم الشرطة فى 22 ديسمبر 2011، مثلما حدث لأحمد خلال تلك الأسابيع الثلاثة ـ اخفاؤه الإجرامى عن أهله.  

 

كان إسلام، شقيق أحمد ابن الحادية عشرة عاما، آخر من رآه حيا من أفراد عائلته. وفى صباح مقتل أحمد أخبره أنه ذاهب لقضاء أمر ما. كان حسن الملبس، وقال لشقيقه الصغير إنه سيذهب وحده. قال إسلام، «مهما حدث، لن أرتاح قبل أن يقدم من فعلوا هذا بأخى وبغيره من الشهداء إلى العدالة.» لقد أظهرت هذه الثورة ميلا لخلق ثوريين جدد مكان كل شهيد يسقط.

 

•••

 

هذه التأملات ليست أكثر من مقتطفات من بين تفاصيل كثيرة ضاعت وسط الصور المذهلة التى التقطت والأخبار العاجلة التى كتبت للاستهلاك الفورى. وهذه الأفكار هى محاولة لطرح مسألة بعيدة عن التفاهة وتغيب عن السرديات السطحية للثورة: الثمن. واليوم، يحاول الإخوان المسلمون ترسيخ هيمنتهم على السلطة. ومع محاولات هذه النخبة السياسية الجديدة إقامة إمبراطوريتها المالية الخاصة ـ بدعوى وجود «أزمة اقتصادية» فى مرحلة من «عدم الاستقرار» ـ تكتسح هذه العملية فى طريقها التضحيات التى لا تقدر بثمن التى قدمها الشعب.

 

إن الإقدام على الاستشهاد هو قلب الثورة. والإقدام على الشهادة مطلوب لمواجه نظام السيطرة. إنها أقوى هبة يمكن أن يقدمها الإنسان، كما فى حالة أحمد. لكن، ومرة أخرى، يدفع الناس ثمن نضالهم من أجل التحرر من القمع الذى يمارسه اليوم الأشخاص نفسهم الذين يدعون العمل باسم الثورة وهم ليسوا أكثر من مجموعة أخرى من المجرمين يقتلون باسم الدولة.

 

 

 

 ناشط ومخرج سينمائى وعضو بمجموعة «مصريين» للإعلام الشعبى

التعليقات