جريمة الدولة وجرائـم الشارع - فيليب رزق - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 6:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جريمة الدولة وجرائـم الشارع

نشر فى : الأحد 29 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 29 أبريل 2012 - 8:00 ص

شهدت البلاد تزايدا فى معدلات الجريمة بالشوارع منذ بداية ثورة 25 يناير. وهى موضوعات ليست فريدة من نوعها، ومن المؤكد أن كل قارئ فى مصر يستطيع أن يضيف إليها، لكن هذا هو موضوع الجريمة الذى أود مناقشته باختصار.

 

ففى رحلة أخيرا إلى مدينة السويس، نظر إلى سائق التاكسى متفحصًا من أعلى إلى أسفل، قبل أن يعرض توصيلى. وقال إنه لا يقبل توصيل أى شخص، لأنه سمع عن العديد من السائقين الذين طلب منهم زبائن توصيلهم إلى شوارع بعيدة، ثم سلبوهم سياراتهم تحت تهديد سكين أو مسدس. وأشار إلى شارع مررنا به قائلا: «لم أكن لأقود سيارتى هنا أبدا».

 

فى ضاحية المنيرة المحيطة بوسط القاهرة، قام أصحاب سوبر ماركت بتخفيض ساعات عمله من 24 ساعة يوميا إلى 16 ساعة فحسب، كما قاموا بتركيب بوابات معدنية ضخمة، بعد محاولة لسرقة المتجر ذات ليلة على الرغم من وجود رجال الأمن.

 

وفى صباح السادس من مارس، وجد أحد أصدقائى سيارته، مسنودة إلى قوالب من الطوب الأحمر وقد سرقت إطاراتها.

 

وفى قرية على مشارف مدينة طنطا، تعرضت عائلات للسرقة على يد مسلحين، وتم اختطاف طفلين، ولم يتقدم الخاطفون بطلبات، بخلاف حالات عديدة مشابهة فى المراكز الحضرية، طلب فيها الخاطفون الحصول على فدية مقابل إعادة المخطوفين. وتقول الشائعات إن أعضاء من أجساد الأطفال كانت تباع فى السوق السوداء. غير أن القرويين يعتقدون أن هذه الجرائم تتغاضى عنها قوات الأمن، التى يندر وجودها منذ الخامس والعشرين من يناير 2011، انتظارا لعودة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل.

 

وهناك سببان متشابكان لزيادة جرائم الشوارع: طبقة دنيا تعانى يأسا حادا، مع سماح المجلس العسكرى الحاكم بغرس مشاعر الخوف داخل السكان والرغبة فى عودة «القانون والنظام» الذى اعتادوا عليه حتى لو كان بعيوبه القديمة. وفى حين بدأ المصريون يستعيدون الشوارع من قوة الشرطة التى روعتهم لسنوات، لم يعد المجرمون المسلحون يرتدون زيا موحدا. ولكن الاختلاف الأهم عن جرائم الدولة أن هذه الجرائم شهدت تحولا جغرافيا: فلم تعد تقتصر على الطبقة الدنيا المصرية فى المقام الأول، فقد أصبح الأغنياء فعليا هدفا مغريا أكثر، وهذا هو السبب فى انتشار الجرائم إلى المدى الذى صارت عليه. فمعظم وسائل الإعلام يديرها ويستفيد بخدماتها الطبقتان الوسطى والعليا. وهى موضوعات لا تنتهى. وربما كان بعضها مبالغا فيه، والبعض منها شائعات، لكنها جميعا تشير إلى واقع متغير فى شوارع مصر. وكما كتبت تيريزا كالديرا فى «مدينة الجدران: الجريمة، والعزل، والمواطنة فى ساوباولو» فإن الأحاديث اليومية لها ملامح معبرة ومنتجة. وتشرح المؤلفة فى هذه الدراسة الأنثروبولوجية عن الجريمة، أن الجريمة تصبح مستهدفة باعتبارها مصدرا للتردى الاجتماعى. ويشتمل الحديث عن الجريمة نفسها، والخوف الذى أثارته، على طاقة تعيد صياغة رؤية كالديرا لعالمنا، ومن ثم تخلق فهما مبسطا يغطى بسهولة بالغة الأسباب العميقة الكامنة خلف الأحداث المحيطة بنا.

 

وتختلف جرائم الدولة فى أنها غير مرئية، على الرغم من أن أشخاصا معينين يشعرون بتأثيراتها بصورة مكثفة أكثر، ويفرضون على طريقتنا فى العيش التى لا يرتبطون بها تهديدا هائلا يماثل التجربة الحسية أو التهديد المباشر الذى تمثله جرائم الشوارع. فنحن لا نشعر بالنصل الموجه إلى جلدنا، وإنما بوخز الجوع فى معدتنا. فضلا عن أن جرائم الدولة يسهل تفسيرها عبر «الخبراء» أو الحكايات الكبرى عن الدولة أو التاريخ أو الدين.

 

جرائم الدولة

 

عندما بدأ عمال مصنع النشا والجلوكوز إضرابهم فى 2008 للمطالبة بتحسين أجورهم، أبلغت الإدارة ضابط أمن الدولة المسئول عن المصنع، الذى أرسل مجرمى الدولة لتهديد العمال المحتجين، ثم احتجز وعذب اثنين منهم فى سجن قريب. وسرعان ما عاد العمال للعمل من دون تلبية مطالبهم. ويقول عبدالله، أحد العمال الذين سيطروا على نفس المصنع فى فبراير 2011 «اعتدنا على أن نكون مسجونين داخل أنفسنا، ولكننى اليوم حر وأستطيع التعبير، لست مسجونا من الداخل أو الخارج». وقد تظاهر العمال عام 2008 وعام 2011 ضد جريمة الخصخصة التى ارتكبها مسئولو الحكومة. ولا تعتبر الخصخة فى حد ذاتها جريمة ولكن عندما تضع كمية هائلة من الأراضى مرتفعة القيمة، والمصانع، والمؤسسات تحت تصرف بضع أعضاء من الحكومة لبيعها، يكون هناك ميل عام لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية. ووفق تقييم متحفظ أعده المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، فقد باع المسئولون المصريون منذ 1991 أصولا بقيمة عشرة مليارات دولار، وهو ما يقل نحو 90 مليار دولار عن قيمتها المقدرة.

 

ومازالت هناك دعوى قضائية مرفوعة حول الطريقة التى اشترى بها مستثمر كويتى المصنعين التابعين لشركة النشا والجلوكوز بسعر يقل عن سعر السوق بصورة لا يقبلها عقل. وكان العامل محمود عطية قد قضى بالمصنع 27 عاما، وعندما قرر المستثمر الكويتى تقليص المساحة المخصصة للمصنع من أجل أغراض أخرى، تم إجبار عطية و700 عامل آخرين على ترك العمل. وقال لى عطية «كان على أن أترك العمل وإلا سوف يخفضون أجرى أو يلفقون تهما ضدى. وهكذا ألقوا بنا إلى الشارع».

 

وفى غياب أى تحقيقات قضائية أو عقوبات جادة للمستفيدين من هذه الصفقات، ظلت الأموال العامة فى حسابات مصرفية شخصية، بينما بقى فى الشارع العمال الذين استثمروا فى هذه المصانع حياتهم.

 

 جرائم الدولة بعد عصر مبارك:

 

 هيمنة منطق الرأسمالية

 

توشك الحكومة الحالية التى تعمل بروح الحكومة القديمة على توقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولى، وتوضح جميع المؤشرات أن الاتفاق سوف يتضمن «الإصلاح» القائم على فرض ضريبة القيمة المضافة. ولا تفرض ضريبة القيمة المضافة على الدخل، وإنما على الاستهلاك، وهو ما ينفق أشد المصريين فقرا غالبية أجورهم عليه. وإذا كانت الحكومة بسبيلها إلى فرض ضريبة القيمة المضافة، فسيكون ذلك شكلا جديدا من أشكال السياسات التى تسلب من المصريين أى فرصة لتحقيق مستوى معيشى لائق. وهو منطق جنائى مفروض من أعلى، وبمقتضاه سوف يدفع الفقراء، وهم الغالبة من السكان، جانبا أكبر من التكاليف عما يدفعه الباقون الذى يستطيعون بسهولة دفع ما يزيد على ما يدفعونه.

 

وفى عام 2004، خلال حقبة الليبرالية الجديدة سريعة الخطى فى عهد مبارك، صدر قانون الضريبة الثابتة، تم فيه تقليص أعلى حد للضريبة على الدخل من 35 فى المائة إلى 20 فى المائة. ومازالت هذه السياسة قائمة حتى اليوم.

 

وتعتبر هذه السياسات من قبيل الجرائم. ويطلق الكثيرون على ضريبة القيمة المضافة، اسم ضريبة الفقراء، أفلا يجب أن نعتبر سرقة إطارات السيارة ضريبة الأغنياء؟

 

●●●

 

لقد كان قيام الثورة التى بدأت فى 25 يناير 2011 ردا على القمع والتفاوت بين مستويات المعيشة، رسالة واضحة عن ضرورة توسيع عبء تكلفة إدارة بلد مثل مصر. وينبغى أن يشمل ذلك ضمن أمور أخرى نظاما ضريبيا قويا، وتخفيضا كبيرا فى دعم القطاع الخاص، وإعادة هيكلة الاقتصاد الداخلى، بدلا من زيادة القروض الخارجية، وآليات مستقلة توضع فى يد السلطة القضائية للرقابة على المال العام. وعلينا أن ندرك أن الاحتجاجات التى تقع فى الشوارع، معركة للتخلص من هيمنة الرأسمالية، سواء تحت حكم الحزب الوطنى الديمقراطى، أو الإخوان المسلمين، أو السلفيين أو المجلس العسكرى.

 

 وتشهد مصر، وبلدان أخرى، انهيارا لنموذج التنظيم المجتمعى للشراكة العميقة بين الرأسمالية والدولة القومية. وتعمل آلية الدولة القومية الآن كأداة للسيطرة على الجماهير وقمعها لصالح الطبقة الحاكمة. وإذا استمرت الظروف الاقتصادية التى كانت قائمة فى ظل نظام مبارك من دون تغيير، فسوف يتعثر منطق التمثيل نفسه. وذات مرة، كتب ماكس فيبر إن التمثيل «بنية الهيمنة». وعلى الرغم من القيادات المنتخبة، مازالت أعداد لا تحصى من المصريين تتظاهر أو تقوم بإضرابات فى مواجهة عدم تغيير حقيقة حياتهم اليومية منذ بداية العملية الثورية. غير أن هذه الظاهرة ليست سوى مثال عالمى آخر على تعثر نموذج حكم الدولة القومية.

التعليقات