عن «الحرية» .. وما جرى في مَكَّة ... عَوْدٌ عَلَى بَدْء - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن «الحرية» .. وما جرى في مَكَّة ... عَوْدٌ عَلَى بَدْء

نشر فى : الأحد 21 يونيو 2015 - 7:00 ص | آخر تحديث : الأحد 28 يونيو 2015 - 10:20 ص

هذا ليس مقالا في أصول الفقه أو السيرة. فلست من المؤهلين دراسةً وعلمًا للخوض في مثل تلك علوم، ولكنه «كلامٌ في السياسة والتاريخ». عن الذين خاصموا «الحرية»؛ سادةً لقريش، أو خلفاء وأمراء وسلاطين ورؤساء وحكام، وعن فقهاء زينوا لهم (ولنا) ذلك، بعد أن طابت لهم (لا لنا) السلطة والاستبداد.

……………………

ثم إن هذه عودة إلى سطورٍ من مقال كنت قد بدأت به في رمضان الماضي سلسلة من المقالات أردت أن أخصصها (في محاولة لالتقاط الأنفاس، والابتعاد عن حديث يفسد البعض صيامه عادة بالتعليق عليه) لقراءة جديدة في كتب قديمة. الكاتب هو الأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوي، والكتب هي سلسلته المميزة التي بدأها بمحمد رسول الحرية (صلوات الله وسلامه عليه) وختمها بعلي إمام المتقين (رضوان الله عليه).. ثم كان بعد أن تفضلت هذه الجريدة بنشر المقال الأول أن جرى ما جرى في غزة، إذ أعلنت إسرائيل «المحتلة» بدء حملتها العسكرية على غزة «المحاصَرة» (يوليو ٢٠١٤)، وأمام صور الدماء والدمار، لم يكن هناك بدٌ من أن نضع يومها كتب الشرقاوي جانبًا لنتفرغ «لحديث الجوار الاستراتيجي»، بعد أن بدا أن معاركنا الصغيرة أنستنا حقائق الجوار، وحقائق الاستراتيجيا.

أما وقد أهل علينا رمضان جديد، فأستأذنكم في «عود على بدء».

 

وهكذا أصبح لمكة، أو بالأحرى لسادتها جيش وشرطة. وأصبح «النظام» تجسيدا «للأوليجاركيا» في صورتها الثلاثية التقليدية: المال والسلطة ويد البطش الغاشمة

في كتابه «محمد رسول الحرية»، الذي استغرق في كتابته عقدا كاملا من الزمان لم يكن الشرقاوي براغب في أن يكتفي «بنقل» ما سبق أن قَصَه الأولون من وقائع ومرويات، وإنما كان يريد أن يفهم، وأن يضع «وقائع ما جرى» بجوار بعضها. لا ليؤكد صدق الرسالة أو معجزات النبي، بحقيقة هنا، أو «مبالغة» لا حاجة لها هناك.  فهذا مما لم يعد بحاجة إلى تبيان. وإنما أراد بكتابه ما وراء ذلك مما هو «إنساني» يشترك فيه كل الناس مهما تختلف دياناتهم وفلسفاتهم وعصورهم أو أماكن معيشتهم.

بدأ الشرقاوي العمل في كتابه سنة ١٩٥٣ وبدأ في نشره على حلقات في جريدة «المساء» في عصرها الذهبي سنة ١٩٦٢، ثم كان أن صودر الكتاب، الذي لم يرق ما فيه لرجال دين لا يعرفون غير «ما حفظوا»، ولا يحبون التفكير «خارج الصندوق»، ويومها جاء طلب المصادرة على هوى من لا يعرفون غير القمع والمصادرة، إذ لم يكن الكاتبُ «مستقل الرأي» الذي سجنه اسماعيل باشا صدقي، ومنع النظام الجديد كتاباته إبان أزمة مارس ١٩٥٤ من النوعية التي يرتاح لها رجال الأمن الذين هم أيضًا لا يحبون التفكير خارج الصندوق. والذي لا يحوي عندهم عادة غير اتهامات معلبة سابقة التجهيز لمن «يجرؤ» على التفكير.

صودر الكتاب إذن، بعد أن جاء بلغة غير «مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» .. فشكا الكاتبُ إلى الرئيس. فأمر عبد الناصر بالإفراج عن الكتاب… وأصبحت «الحكاية»، في تفاصيلها تجسيدًا لموضوع الكتاب ذاته، الذي يحكي مشهدا تاريخيا للصراع الأزلي / الأبدي بين «الحرية» التي فُطر الناس عليها من ناحية، وبين «استبداد السلطة»؛ دينية كانت أو سياسية من ناحية أخرى.

•••

يبدأ الكتاب بعرض «أدبي» لكيف كانت الحياة في «مكة» زمن الجاهلية. وكيف لظروف بيئية وجغرافية، كان أن اعتمدت الحياة الاقتصادية في «المدينة الصحراوية» أيامها على التجارة، والتي يومًا بعد يوم أصبحت الحاكمة بآلياتها وقواعدها لكل العلاقات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المكي. ثم كان طبيعيا أن تصبح توازنات وقيم البيع والشراء والربح أساسًا للبناء الروحي والديني والثقافي، ومن ثم «السياسي والسلطوي» في المدينة المركزية في الجزيرة العربية.

 أصبح الرجل بقدر ما يملك. وأصبح الربح هو الغاية مهما تكن الوسيلة إليه. وأصبح الأثرياء من التجار الكبار هم الحاكمون. ينشئون القواعد، ويفرضون التقاليد، ويضعون الأعراف والقوانين التي تصون لهم في النهاية مصالحهم، وتضمن استمرارهم كطبقة حاكمة. لا تسمح، ليس فقط لعامة الناس، بل وحتى للتجار الأصغر بالاقتراب من «ناديهم». ثم كان أن أصبحت «الحرية»، أو بالأحرى المقايضة عليها رقما رئيسًا في المعادلة، وأسلوبا فجا لترتيب هرم السلطة. بل، وربما الأكثر إثارة أن «الحرية» بمعناها المطلق «بل والمباشر» أصبحت أيضًا سلعة أو بالأحرى «عملة» صالحة للتداول والمقايضة.

إلى جانب الأغلبية الساحقة من الأجراء والعبيد، الذين لا يملكون قرارًا، كان على التاجر الصغير أن يستدين ليعمل. وإن خسر ماله أو عجز عن أداء دينه. كان عليه أن ينزل للدائن عن «حريته». فيصبح «عبدًا» له حتى يقتضي منه الدائن ماله. وضمانا لاستمرار منظومة «الطبقة الضيقة» الحاكمة، حتى لا تتسع الطبقة الوسطى (أداة التغيير الكلاسيكية المعروفة) كانت القواعدُ تقضي بأن يحسب الدائن دينه أضعافًا مضاعفة عند حلول أجل الدين، وهكذا كان المدين ينزل عن «حريته» لسنوات وربما لآخر العمر. بل وكان من القواعد أيضا أن يرتهن الرجل ولدَه أو امرأتَه أو ابنتَه أو أحدًا من أهله، فإن عجز عن السداد، أصبح الرهنُ متاعًا للدائن يستعبده ويستمتع به «أو يؤجره» للمتعة. كان «القهر» أسلوب حياة .. أو بالأحرى «أداة حكم وسلطة».

ولما كانت قوافل التجارة تقطع المسافات الشاسعة، فقد آثر سراة مكة أن يشتروا العبيد من أفريقيا ويدربوهم على السلاح ليقوموا بحراسة القوافل خارج مكة من ناحية، وليكونوا أداة لحماية سادتهم، والمحافظة على «النظام» داخل مكة من ناحية أخرى. يسودهم «الفرسان»؛ الذين هم جزء من الطبقة المتنفذة. وهكذا أصبح لمكة، أو بالأحرى لسادتها جيش وشرطة. وأصبح «النظام» تجسيدا «للأوليجاركيا» في صورتها الثلاثية التقليدية: المال والسلطة ويد البطش الغاشمة.

•••

وكما كان أن أوجدت منظومة القهر والخوف السائدة ما بدا «استقرارا»، كان أن أوجدت «الدعوة» ثوارها الرافضين «لنظام» السلطة المستبدة والفساد المُقَنَّن

ولم تكن «العقيدة الدينية»؛ أداة السلطة المفضلة والمؤثرة بعيدًا عن ذلك كله. بنى إبراهيم أبو الأنبياء الكعبة «مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا». ثم كان أن بقيت الكعبة، وغابت تعاليمُ إبراهيم. عادت الأصنامُ لتحتل مكانَها حول الأسوار. وأصبح «البيت» ناديا لأصحاب السلطة من قريش. تمنحهم الأصنامُ مزيدا من القوة والجاه والنفوذ .. بل والثراء. فإليها يحج العرب ثلاثة أشهر من كل عام؛ يقدمون الهدايا والقلائد والأموال والنذور إلى الأصنام، أو بالأحرى إلي الذين يحكمون «ويملكون» باسم الأصنام. ثم أنهم يستثمرون أموالهم في البيع والشراء «والربا» خلال أشهر الرواج تلك.

كان المال والنفوذ والسلاح «والكعبة» للسادة في السلطة. ولم يكن للآخرين شيءٌ يحميهم، لا القانون ولا العرف السائد ولا التقاليد.. ولا «الآلهة».  كان المجتمع تمييزيًا بامتياز. وكانت الأوضاع «مستقرة».

•••

وكما كان أن أوجدت منظومة القهر والخوف الاجتماعية السائدة تلك عادة «وأد البنات» لتجنب خزي الاضطرار إلى أن يُرتَّهن يوما، أو يؤخذن للتمتع بهن قضاءً لدين، كان أن أوجدت «الأوليجاركيا» المكية ثوارها الرافضين لمنظومتها الاستبدادية ونظامها الفاسد. فكان الهاربون إلى البادية من خزي الحياة أذلاء في مكة، يكونون جماعات تهاجم قوافل الأغنياء وتنتزع لقمتها بحد السيف. كما كان في مكة رجال «تحرروا» بفكرهم من إسار ذلك كله فخرجوا عليه، عرفهم محمد بن عبدالله صغيرا «قبل الدعوة» منهم ورقة بن نوفل الذي وجد في المسيحية ضالته، وأمية بن أبي الصلت الذي طالب تجار قومه بأن «يعدلوا» فأبعدوه. ومنهم زيد بن عمرو الذي طالب الرجال بدلا من يئدوا بناتهم، أن ينقذوا أنفسهم من العار بالامتناع عن تسليم نسائهم للمرابين وفاء للديون. ولكن «النظام» المستقر وثقافته كان أقوى، فلم يستجب له المستضعفين ونفاه كبار مكة خارجها.

•••

هي قصة الصراع الدائم بين «الحرية» التي فُطر الناس عليها، وبين «الاستبداد»، الذي يستهوي السلطة، وهي سطور في سيرة نحتاج أن «نتعلم منها»، لا أن نكتفي بأن نحفظ نصوصَها، أو «نحْمِل أَسْفَارها».

وسط ذلك كله، أتى محمد. أو بالأحرى أتاه الوحي. لا ليهدم الأصنام فقط كما فعل جده إبراهيم، بل «ليُسقط النظام» كله. وكان قد أدرك مبكرا أن النظام في قريش بتركيبته الاجتماعية والاقتصادية «والسلطوية»، يحتاج هذه الأصنام. فلا نظام يقوم على الاستبداد إلا ويحتاج صنما يؤلهه. فالصنم في النهاية ليس مجرد حجر، بل هو تجسيدٌ لثقافة نظام.

وكان من الطبيعي أن يكون أكثر من اتبع «الرسول» في البداية هم المستضعفون والمظلومون، ثم أولئك المؤمنون بالحرية والعدل. ثم كان من الطبيعي أن ينتفض «النظام القائم» دفاعا عن نفسه.

وفي غير موضع يحكي لنا الشرقاوي في كتابه تفصيلا (ما لن تسمح به هذه المساحة) كيف يتوحش «سادة النظام» دفاعا عن مصالحهم. سواء بما فعلوه سابقا مع ثوار ما قبل الدعوة من مثل زيد بن عمرو بن نفيل وخالد بن سنان، أو ما فعلوه لاحقا؛ بالترغيب والترهيب مع صاحب الدعوة «الهادرة» محمد بن عبدالله ورهطه وعشيرته، وبالطبع من تبعه من المؤمنين.

وكيف «بحثا عن الاستقرار» وإيثارًا للسلامة، تُرفض الأفكار الجديدة، حتى من جانب كثير من الذين من المفترض أن يستفيدوا منها. وكيف يقهر الظلم والحاجة إرادة الإنسان «الحرة» في التغيير والاختيار. وكيف تعصف «لحظة اللا يقين» بعقول الناس في لحظات التغيير الكبرى. فيتشاحنُ أصدقاء العمر (عمر بن الخطاب وحمزة بن عبدالمطلب). ويكيدُ الرجل (أبو لهب) لابن أخيه وصهره. ويشج ابن الخطاب رأس أخته فاطمة.

ثم يحكي الشرقاوي كيف تسبب قرار غبي لقريش في إقصاء نفر منهم (بتوقيع صحيفة مقاطعة بني هاشم) في ازدياد عدد الذين صاروا مع محمد.

ثم كيف لم تنجح كل محاولة لنظام قريش المستبد الفاسد في إطفاء شعلة «الحرية»

•••

وبعد..

فهذا «عودٌ» إلى سطور نصل بها ما انقطع؛ قراءةً  في «سيرٍ قد خلت»، وكانت موضوعا لخماسية الشرقاوي الشهيرة.

وربما كان علينا بعد أن نقرأ، أن ندرك، ونحن في لحظة اختيار الطريق: أن «السَّيْرَة: الضَّرْبُ من السَّيْرِ» كما يقول المحيط ولسان العرب. وليست فقط ما درجنا على استعمال اللفظ للدلالة عليه.

ثم يبقى .. أن رواية الشرقاوي «الأدبية» لسيرة الرسول قد لا تكون وافية مكتملة أو دقيقة تماما؛ «جامعة مانعة» كما يقول المناطقة، فهكذا الأدب، بل وهكذا روايات التاريخ. ولكني أحسبها صحيحة تماما في توصيفها للصراع الإنساني «المتماثل» في كل الأزمان والعصور والآفاق بين «الحرية» من ناحية «واستبداد السلطة الأوليجاركية» من ناحية أخرى. فقريش / السلطة المستبدة لم تكن فقط زمن محمد.. أليس كذلك؟

 ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة:

ــ  عن النظام الذي لم يسقط بعد

 

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات