خطابنا الدعوى إلى أين؟.. تمويل الخطاب - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطابنا الدعوى إلى أين؟.. تمويل الخطاب

نشر فى : الجمعة 22 مايو 2015 - 8:45 ص | آخر تحديث : الجمعة 22 مايو 2015 - 8:45 ص

ــ1ــ
هل فاجأك عنوان «تمويل الخطاب»؟ وهل كانت المفاجأة شديدة؟ لا شك كانت شديدة وغير واردة على البال، لأن الجميع تعود أن لكل شىء تكلفة، ولكل عمل مقابل وعائد، ولكل نشاط أجر إلا العمل الدعوى الذى يتصور الكثيرون أنه لابد أن يكون دون مقابل. إن حبس الوقت وإتاحته لإجابات أسئلة الناس عمل شاق يستلزم التفرغ منذ الميلاد وحتى الشيخوخة، وإعداد هؤلاء الذين يتفرغون لفهم الدين ثم توصيله شفافا واضحا دون زيادة أو نقصان، لا شك عمل ثقيل يتطلب تكاليف عالية بين علوم وفنون ومهارات وقدرات تخلق الثقة فى نفوس الناس فيسألون باطمئنان ويلتزمون وهم فى أعلى مستويات الرضا والتعبد.

ــ2ــ
وكما نعلم، فالخطاب الدعوى فى عصرنا هذا ليس مجرد شيخ يحفظ النصوص صباحا ويقدمها مساء، بل يأت الخطاب الراشد من منظومة ضخمة بحاجة إلى تمويل ضخم، وليس ضخما فحسب، بل لابد لهذا التمويل أن يكون محايدا لا ناقة له ولا جمل فى موضوع الخطاب. فمؤسسة الدعوة مؤسسة ذات طبيعة خاصة تتلخص مهمتها فى دلالة الناس على أفضل الوسائل لتحقيق طاعة الله من خلال إعمار الكون بجهود إنسان كريم. وتلك مسئولية كبرى لا تحقق نتائج دون حياد واستقلال يقنع الجميع أن مضمون الخطاب مصلحة عامة تعلو على سائر المصالح والمذاهب والسلطات والفلسفات. بل إن الخطاب الدعوى يقوم أحيانا بدور الحكم بين المتخاصمين، لذلك لابد من حياد تام.

ــ3ــ
وبعيدا عن المصطلحات العلمية والفنية، فالتمويل هو عصب أى مشروع منتج يرجى له النفع والبقاء، ويقوم التمويل فى أبسط صوره فى شكل أصول ثابتة وأصول أخرى متداولة. والأصول الثابتة فى مشروع الخطاب الدعوى تتمثل فى إنشاءات المعاهد والجامعة والمجامع الأكاديمية وإنشاءات المساجد، وإنشاءات مقار الطبع والنشر والإذاعة والعروض الفنية. كذلك فإن آلات وأدوات كل تلك التخصصات ضخمة التكاليف وأبرز مكونات الأصول المتبادلة هى المرتبات والحوافز وتكاليف الإحلال والتجديد، بالإضافة إلى المواد المستهلكة بداية من من ورق الطبع وحتى الأقراص المدمجة الحاملة للخطاب.

ــ4ــ
وقد فاز الفقه الإسلامى فى تنافسه مع الحضارات الأخرى بنظرية الوقف فى موضوع «استقلال التمويل وحيدته» فى كل ما يحتاج إلى موقف علمى حيادى غير مسيس ولا متحزب ولا متمذهب مهما كان صلاح القائمين عليه.. بل إن الخطاب الدعوى يرجى منه الحياد الإيجابى إذا حدث خلاف بين الشعب وبين السلطات. ولهذا لا يمكن أن يتقبل الناس ولا أن يتفاعلوا ويتوافقوا مع خطاب دينى صادر عن محكوم أو حاكم فكلاهما متمسك بوجهة نظره، وكلاهما يعلن الرأى الذى يروق له. الأمر الذى يحدث شروخا فى المجتمعات، بل ويهدد الوطن بحرمانه من ولاء الأبناء له، ويهدد المواطن بشعوره بعدم الانتماء، فكيف نصل إلى خطاب دينى محايد؟

ــ5ــ
فى سنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سنة خاصة بهذه القضية ثبتت جدارتها، بل إن أمتنا وغيرها من الأمم قد أكثرت من استعمالها، وحققت من وراء ذلك خيرا كثيرا. هذه السنة هى سنة «الوقف الخيرى»، فالوقف ــ كما أمر الشرع ــ بعيد عن سلطان البشر سواء كانوا حكاما أو محكومين، فالوقف يخرج من ملك الناس، ويؤول إلى ملك الله رب الناس جميعا، فلا ينفرد بإدارته فريق، ولا يعارضه فريق ولا يسعى للتشبع منه فريق، ولا يحرم من عائده أى مخلوق يحتاج إليه.

ــ6ــ
وقد استقر فقه الدعوة على ضرورة إسناد مهام الخطاب الدعوى بجميع مراحله إلى هيئة وقفية يديرها مجلس أمناء يحظى بثقة عامة، ويخضع لأعلى مستويات الرقابة المتاحة فى البلاد. كما تكون الكلمة العليا فى أى نزاع ينشأ حوله للقضاء، ليس إلا، نظرا لما يتمتع بها القضاء – فى الشريعة الإسلامية ــ من ضوابط وقيم تجعل القاضى متحررا من شئون الدنيا لا يرى أمامه إلا الله وعدله وحسابه.. وكثيرا ما قام الوقف بأدوار أساسية وأخرى ثانوية ساهمت فى تثبيت دعائم الولاء والانتماء، وعوضت الناس ما يفقدونه بسبب مساوىء وقصور السياسات. وكان الوقف فى مناسبات كثيرة هو السند القوى للدولة والشعب، فما هو الوقف؟ وما هذا العقل الواعى الذى ابتكره؟ ومتى بدأت أول نماذجه؟ فذلك موعدنا فى الحديث التالى..

يتبع

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات