لينكولن - كمال رمزي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 11:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لينكولن

نشر فى : السبت 23 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 23 فبراير 2013 - 8:00 ص

هل تتذكر الممثل البريطانى دانيال دى لويس الذى أدى، باقتدار، وخصوصية فريدة، دور الجزار، الموغل فى الشر، القائل، صاحب الضمير الميت، فى «عصابات نيويورك» لمارتن سكورسيزى 2002، واستطاع، على نحو ايحائى، التعبير عن الجانب المظلم، الوحشى، فى تراث العم سام، متمثلا فى الرغبة العارمة فى الهيمنة، والابتزاز، والاستعداد الدائم لاستخدام قوة القمع.. دانيال دى لويس، بنظراته المتنمرة، حتى وهو يبتسم، تشيع جوا كثيفا من التوتر، ينتقل من الشاشة إلى المشاهد الذى يتوقع اندفاعه غادرة من المدية التى يجيد استخدامها، حسب هواه، فأحيانا، لمجرد علامات  غائرة على الوجه، تظل باقية طوال الحياة، وغالبا، للقتل.. الجزار، فى جملة واحدة: خطر يمشى على قدمين.

 

إذا تذكرنا هذه الشخصية العاتية، تفهمنا لماذا رفض دانيال دى لويس، فى البداية، القيام بدور الرئيس لينكولن، المناقض تماما للجزاء.. أغلب الظن أن الممثل الكبير أحس بصعوبة الانتقال من هذا النموذج المتمرغ فى الوحل والدم، إلى ذاك الرجل، صاحب المثل العليا.. وربما خشى الفنان عدم تصديق الجمهور، خاصة أن أحداث «عصابات نيويورك» تدور عام 1863، أثناء فترة رياسة لينكولن، بالإضافة إلى أن المخرج ستيفن سبيلبرج، عرض على دى لويس أداء الدور عقب انتهاء الأخير من تجسيد الجزار مباشرة، فما كان من سبيلبرج إلا إعلانه أنه لن يحقق «لينكولن» إلا ببطولة دانيال دى لويس.. بعد عشر سنوات من «عصابات نيويورك»، قرأ دى لويس النسخة الأخيرة من السيناريو الذى كتبه تونى كوستر، والواضح أنه أعجب به، فوافق.. وبالتالى، أصبح عليه أن يتمثل شخصية الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة، ويجسده، شكلا وجوهرا، وعلى نحو يختلف ــ إن لم يتميز ــ عن أكثر من مائتى ممثل قدموا «لينكولن» فى أفلام روائية من أنواع متباينة إن لم تكن متضاربة، حتى زن بعضها، مثل «إبراهام لينكولن: صياد مصاص الدماء»، ينتمى لأفلام فانتازيا الرعب.

 

دانيال دى لويس، يتطابق مظهرا من صورة «لينكولن»: طويل، نحيل، يمشى بعناء، عظام وجهه بارزة، تجاعيد حول عينيه الغائرتين، حليق الشارب مطلق اللحية، ناعم الشعر، بسيط فى ملابسه، يتحرك بتوءدة.. أما عن صوته، غير المتوفر، فإن دى لويس، كما يقول، أخذ يدرس ويبحث ويتخيل كيف ينطق الرئيس كلماته، من خلال كتاباته وخطاباته، حتى أنه ــ والكلام للممثل ــ أصبح يسمع صوت لينكولن فى أذنه.

 

أما عن الأبعاد الداخلية للرئيس، فإن الفيلم وضع نصب عينيه أن الرجل مسئول عن آفة فى حظه، فالحرب الأهلية التهمت ستمائة ألف نفس بشرية، والاقتصاد شدد التدهور، وولايات الجنوب تصر على الانفصال، وترفض تحرير العبيد.. ومثل كل الأوطان التى تمر بمثل هذه المآزق، إما أن تفرز قيادة قادرة على الوصول إلى بر آمن، أو تتسلط عليها طغمة جاهلة، فاسدة، تزيد الأمور انهيارا.

 

إبراهام لينكولن، تاريخيا، هو رجل الساعة، يملك الخيال والإرادة ونفاذ البصيرة، وبعيدا عن الفترة الصاخبة التى عاشها لينكولن «1809 ــ 1865»، تعمد الفيلم الاكتفاء بالشهور الثلاثة الأخيرة فى حياته، وابتعد عن المشاهد الضخمة للمعارك الحربية، فيما عدا ثلاثة مشاهد تكاد تكون صامتة، بل ساكنة أيضا. فى البداية، تحتدم موقعة حامية، تتلاحم فيها الأجساد وتتصادم الخيول، وكأن سبيلبرج يذكرنا أنه صاحب «إنقاذ الجندى رايان»، وأنه يجيد إخراج مثل هذه الأمور.. أما المشهد الثانى، المكثف، الأعمق تأثيرا، فتتابع فيه الكاميرا عربة يد خشبية، يدفعها رجلان حمولتها مغطاة بملاءة سوداء. سوائل تتساقط من العربة، تقترب من حفرة. يكشف أحدهما العطاء. الحمولة مكونة من أذرع وأرجل مبتورة، تلقى بداخل الحفرة المليئة أصلا بأطراف بشرية ممزقة.. أما المشهد الثالث، الطويل نسبيا، يطالعنا فيه الرئيس، ممتطيا صهوة جواده، ومعه عدد من جنرالاته، يسير متمهلا، فوق أرض موحلة، تتناثر فيها، بكثافة، جثث متفسخة، لا فرق بين جنوبيين وشماليين.

 

فى المقابل، اتجه سبيلبرج بفيلمه نحو الداخل، سواء على مستوى المكان، أو بالنسبة لبطله. معظم المشاهد تدور داخل البيت الأبيض، قبل اختراع اللمبات الكهربائية، ولعل الطموح إلى إضفاء المزيد من الواقعية، جاءت الإضاءة أقرب لمحاكمة الشموع، والأشعة الشحيحة المتسللة من النوافذ، وبالتالى بدت الكثير من اللقطات، خاصة الليلية، على درجة كبيرة من الإعتام، وربما قاتمة، وفى ذات الوقت، تعبر عن الوضع النفسانى الكئيب لوطن تتهدده المخاطر من كل جانب.. لكن هذا الأسلوب، فى تقديرى، تسبب فى انزعاج مشاهدين عاديين ونقاد، ودفعهم إلى مغادرة قاعات العرض.

 

لينكولن، فى الفيلم، ليس زعيما، ولا يتمتع بكاريزما تخلب لب مريديه، ولكنه، حسب رؤية تونى كوسنر وسبيلبرج وأداء دانيال دى لويس، رجل بسيط، قيمته الرفيعة ترجع لانحيازه للعدل، وإيمانه أن أمة، نصفها من العبيد، ونصفها من السادة، هى، كلها، أمة من العبيد.. بعبارة أخرى، يدرك لينكولن أن بقاء الولايات المتحدة، مرهون بالعدل، وهو، يقف إلى جانب المستقبل.

 

الحوارات، فى الفيلم، على درجة كبيرة من الأهمية، تبين بجلاء أن القيم السائدة، الموروثة، ليست بالضرورة صائبة، وسيأتى اليوم الذى تصبح فيه تلك الأفكار من مخلفات ماض بغيض، فحين يقترح أحد رجال لينكولن، فى مجلس النواب، عن إضافة مادة للدستور، تنص على أن كل المواطنين لهم ذات الحقوق أمام القانون، يصيح أحد المتعلقين بأهداب الماضى «وقد يأتى اليوم الذى تسمحون للجميع بالتصويت أيضا».. وبغضب وانزعاج يقول أحد العنصريين «وماذا بعد ذلك؟.. السماح للنساء بالتصويت!».. عندئذ، تضج القاعة بالاستياء والاستنكار.

 

تجنب الفيلم إضفاء أية هالات قداسة من الممكن أن يضعها على هامة لينكولن، وابتعد عن اعتباره أسطورة، فالرئيس، وهذه ميزته، رجل دولة بحق، لا يتصرف على نحو عشوائى، يعرف كيف يقود سفينة الوطن، ويجعلنا نرى، كيف تدار الأمور، أيا كانت درجة تدهورها.. و«لينكولن» فى هذا، يأتى للدراسة والتأمل، والمقارنة إن شئت، وليس لمجرد المتعة العابرة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات