غَربَلَ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 12:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غَربَلَ

نشر فى : الجمعة 23 يونيو 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 23 يونيو 2023 - 8:15 م

إمضاءٌ وبَصمةُ أصبعٍ ونظرةُ عينٍ؛ أجهزةٌ تسجلُ الحضورَ وتوثّقه، أثمانها مُرتفعةٌ مُزعِجة لكنها تهونُ بدعوى إلزام الموظفين بالمواعيد المُقرَّرة. أيامٌ وأسابيع قليلة وإذا بها تخُرُّ مَعطوبة، وإذا بالعشرات يُوقعون في الدفاتر كما كانوا. تلك عادةٌ لا تنقطع، فإذا ذهبَ رئيسُ العملِ وحلَّ مكانه آخر؛ أظهر فيضًا من الصَّرامةَ والصَّلابة وانتهج ما يُضيق الصُّدور، حتى ليواسي المَرؤوسون أنفسَهم ويتوسَّلون الصَّبرَ قائلين: الغُربالُ الجَّديد له شدَّة، والقصد تَعريضٌ بكلَّ قادمٍ طازجٍ، يَعمد في البدايةِ إلى فرضِ القواعد الصارمةِ ومُتابعة تطبيقها، لا احترامًا أو التزامًا؛ بل رغبةً في إثباتِ اختلافِه عن سَلفه. يُصبح حينها كالغُربال الذي لم يُستعمَل بعد، تتمتَّع خيوطُه بالاستقامةِ والقوة، وثقوبُه بالضيق والتماسُك؛ فما إن يمُر عليه وقتٌ وتثقلُه الحمُولُ؛ حتى يتراخى ويتَّسع ويُمسي كسابقيه.
• • •
يُشير الفعلُ غَربَل في قواميس اللغة العربية إلى فَصلِ الحبوبِ عما علقَ بها من زوائد كالحصي والأتربة وغيرها. الفعلُ رباعيّ الأصل، فاعلُه مُغربِل بكسرِ الباء، والمَفعول به مُغربَل بفتحها، والغَربَلةُ هي المَصدر، أما الغُربال فهو الأداةُ المُستخدَمة في استخراج الشوائبِ واستبعادها.
• • •

يقع شارع المُغربلين في منطقةِ الدربِ الأحمر بالقاهرةِ الفاطميَّة، ويضمُّ آثارًا مُتعددة ترجع إلى قرونٍ مضت؛ منها زاوية عبد الرحمن كتخدا ومَسجد جاني بك، ويُقال إن العبقريَّ محمود المليجي، وكلًا من المسرحيّ لاذعِ الكَّلمة بديع خيري والشيخ القارئ مُحمَّد رفعت؛ قد وُلدوا فيه، إضافةً إلى المُطرب شفيق جلال وكذلك خَفيفِ الظِلّ شكوكو؛ ولعلَّ اسمَ الشارع قد استُقيَ مِن توطُّن تجارةُ الحبوبِ بين ربوعه؛ حيث اتَخذَت عملياتُ التنظيفِ والتنقيةِ مَجراها، والحقُّ أن الكتابةَ عن مكانٍ ذي صبغةٍ تاريخيةٍ يثير الشُّجونَ ويستجلبُ العِبر.
• • •
تعملُ الشدائد عملَ الغُربال، فتفصلُ الناسَ كلًّا على حده، وتفرقُ بينهم على أساسِ المواقفِ والتصَرُّفات. هناك مَن يصدق فعلُه قولَه، ومَن يسير عملُه بعيدًا عن الصورةِ التي رسَمها لنفسِه في الأذهان، ويذكر التاريخُ أمثلةً مُتعددة لأشخاصٍ مَروا بأحداثٍ عصيبة؛ فتخَلَّى عنهم مَن تخَلَّى وبقيت قلةٌ ترعى الوِدَّ وتقدم المُساعَدَةَ، وفيما حلَّ بالموسيقي العظيم مُحمَّد فوزي إبان تأميم شركته مِثالٌ أكيد، وفيما عانته الجميلةُ تحية كريوكا أثناء أزمة زواجها والاستيلاء على ثروتِها مثالٌ آخر.
لم يجد فوزي سوى زَوجه التي وقفت بجانبه حتى النهاية، ولم تجد كريوكا سوى الفنانة شادية لترعاها في مِحنتها. انسحبَ الآخرون من حولهما ولم يعد لهم وجود؛ غَربلتهم الحياةُ وأفلتتهم الثقوبُ وأسقطتهم بما يستحقون أرضًا.

• • •

تقول الأمثولةُ الشَّعبيةُ الطريفة: "يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمَياه في الغُربال"، والمعنى أن هذه التي تثقُ في رَجُل؛ مثلها مثل مَن تظنُّ أن الغُربالَ قادرٌ على حَملِ السوائلِ دون أن تسيلَ منه. التشبيهُ مُوجع وسِرُّه في التعميمِ الشَّامل؛ وكأنما يُفضي بحقيقةٍ ثابتةٍ مُطلقة لا تحتملُ المُراجعة.

• • •

عادةُ الثُّوراتِ أن تُغربِلَ الجُموعَ التي انخرطَت فيها؛ قادةً وجماهيرَ على حدٍ سَواء، فتُبين مَن آمن بها واعتنقَ أفكارَها وظلَّ على عَهدِه وفيًا لمبادئِها وأُسُسِها، وتكشفُ في الوقت ذاته مَن انتهزَ فُرصةً لاحت؛ فقفز يُحاول اقتناصَ أيّ غنيمة. خلال الأعوامِ الإثنيّ عَشر الماضية؛ مثَّلت ثورةُ الخامسِ والعشرين مِن يناير غُربالًا حقيقيًا، باعد بين فِرَق مُتنوعة أعلنت ذات يَومٍ اتحادَها. ثمَّة مَن تخلَّى في التوّ عن حلمِه إذ أدركَ حتميَّةَ الانهيار، ومَن سعى للسَّير على خطٍ رفيع لا يُلقي به على أحد الجَوانب، ومَن تنصَّل مِن سابقِ انتمائه وبَدل ولاءَه، ومَن أعلنَ تأييدَه للثائرين ولم يلبثْ أن أدارَ ظهرَه وأفصحَ عن وَجهٍ قاهر.

• • •

يؤكد القولُ المأثور أن مَن لا يَرى مِن الغُربالِ أعمى، والقَّصد واضحٌ لا حاجة به إلى تفسير أو تأويل؛ فبعضُ الحقائقِ جليَّةٌ ظاهرةٌ، تجاهلُها لا يعني غيابَها، والعيبُ إذ تزوغُ عنها الأعينُ؛ كامنٌ في الشَّخص الذي لا يُريد إبصارَها.

• • •

مع إتمامِ يومه السَّابع؛ يُوضَع المَولودُ في الغُربالِ مُحاطًا بالزينات والورود، اتباعًا لتقليدٍ عتيقٍ لم يزَل يُمارَس بعنايةٍ واهتمام إلى لحظتِنا هذه. تحملُه في العادةِ الجَدَّةُ، تدور به بين حجراتِ البَيتِ ومِن خلفِها الصغار وبأيديهم الشُّموع، يُرددون مع رشَّات الملحِ كلماتٍ مَحفوظة؛ ما إن تنتهي حتى يبدأ طقسُ التلقين.
يهتزُّ المولود وَسط الدائرةِ الواسِعة، فيما تأتي دقَّاتُ الهون فتأمره بأن يُطيعَ فلانًا وبألا يُطيع علانًا. استخدامُ الغُربالِ تحديدًا فعلٌ رمزيٌّ يُشير إلى تنقيةِ الوَليدِ الجديد مِن كُل فاسد، أما التوصيَّات والنصائح التي يَصيح بها المُجتمعون؛ فمحضُ أصواتٍ تطرقُ أذنيّ الوافدِ الغافلِ، وتُنبهُه للعالمِ مِن حوله، دون أن تتركَ في ذاكرتِه أدنى أثر.

• • •
يُقال إن مَن غَربَلَ الناسَ نخلوه؛ والقَّصد أن البادئَ -أو ربما المُعتدي- يتحمَّل بالضَّرورةِ توابعَ ما فَعل، فإن كشَفَ سَترَ الآخرين وعَرَّى ما حَجَبوا مِن أسرار؛ استداروا ليُذيقوه مِما صَنعَ وليجرعَ في النهاية مِن الكأسِ نفسِها، وفي السياقِ ذاته قد يُقال: على الباغي تدور الدَّوائر.

• • •

يُدَققُ عتاةُ المُحامين في القضايا التي يتولونها، يبحثون تفصيلاتها ويشبعونها فحصًا وتمحيصًا، يغربلونها حتى تتكشف ثغراتها ومخابئها وتصبح في اليدّ طيّعةً مَضمُونة، والثابتُ أن بعضَ الأمور لا تُؤخَذ على عجالة، إنما يَجدر التروّي إزاءها وإيلائها نظرة عميقة مُتأنية، أما وقد اختلطت الأوراقُ في الآونةِ الأخيرة ولم يعد للإجادةِ مَردودٌ طيبٌ مُجزٍ، فقد صرنا نتسامى عن دراسةِ ما نَنخرطُ في أدائِه، ونعزفُ عن استطلاعِ مثالبِه وحسناتِه.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات