دماء على طريق التغيير - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دماء على طريق التغيير

نشر فى : الجمعة 23 نوفمبر 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : الجمعة 23 نوفمبر 2012 - 8:30 ص

مرت سنة على مواجهات محمد محمود «الكربلائية» ولا تزال الدماء تسيل طوعا أو كرها طلبا للتغيير، ولا تزال الأحداث تثبت أن انتظار التغيير أعلى كلفة من النضال من أجله، وأن الهروب من المواجهات تجنبا للفتنة إنما تؤدى لإراقة المزيد من الدماء.

 

••• 

 

جاء الاعتداء على المعتصمين فى أعقاب مليونية 18 نوفمبر 2011 ــ من غير أن يعطلوا مصلحة ولا يقطعوا طريقا ــ ليشعل فتيل أزمة تسارعت وتيرتها بتداعى الآلاف للدفاع عنهم، وبالعنف المفرط لأجهزة الجيش والشرطة التى قتلت العشرات، فكان مطلب المتظاهرين الإقالة الفورية للمجلس العسكرى ومحاكمة أعضائه.

 

وامتنع الإخوان، وبعض الفصائل الأخرى، عن المشاركة وعن دعم المتظاهرين، طلبا للـ«استقرار» وتجنبا للـ«فتنة»، وظنا منهم باستحالة الجمع بين مسارى الصناديق الانتخابية (الصانع للشرعية البديلة)، والاحتجاجات (المقوض لشرعية العسكر)، فأثر ذلك سلبا على القوة الدافعة للتغيير، ولم تُحَصِل كل مطالبها، واكتفت بانتزاع الإعلان عن موعد محدد للانتخابات الرئاسية.

 

وبسبب الرغبة فى «الاستقرار» و«حقن الدماء»، ظل العسكر فى الحكم فترة، قتلوا خلالها المزيد، بعضهم فى مواجهات (كأحداث مجلس الوزراء، ومحمد محمود 2)، وجلهم من غير مواجهة، كشهداء بورسعيد، الذين فاق عددهم أعداد شهداء كافة المواجهات مع العسكر، من محمد محمود للاعتداء على أهل جزيرة القرصاية الأسبوع الماضى.

 

••• 

 

مأساة قطار أسيوط لم تكن مفاجئة، بل إنها تبدو أقرب للطبيعية عند النظر إليها من ثلاثة أبعاد، أولها البعد التأريخى، ويمثل فيه الحادث امتدادا لعدد (تخطى العشرين) من حوادث القطارات الأقل كارثية فى نتائجها وقعت فى الأشهر الأربعة الأخيرة، واستمرارا لمسلسل أطول من إهمال مؤسسات الدولة المؤدى للقتل، وفشل البيروقراطية عن أداء وظائفها الرئيسة، وهو فشل تجلى فى حوادث العبارة وقطار الصعيد وحريق قصور الثقافة والمبيدات المسرطنة والدويقة والزلزال والتفجيرات الإرهابية وحريق مجلس الشورى وغيرها، ولم يفتح الحكام هذه الملفات، ويسعوا لتغيير الهياكل المؤدية لهذا الفشل، بسبب ما يستوجبه ذلك من مواجهة المستفيدين من الوضع القائم، وهو ما يتجنبه الحكام سعيا لحقن الدماء، غير أن النتيجة تكون إراقة المزيد منها.

 

ثانى الأبعاد هو الاجتماعى، وفيه تتضح علاقة هذا الحادث بإضرابات قطاعى الصحة والنقل بالأخص، فإضرابات قطاع النقل تطالب بإعادة هيكلة الأجور، وتقليل ساعات العمل (وهى مطالب أثبت الحادث جديتها واستعجالها، إذ الورديات الطويلة مع محدودية الدخل تكاد تفرض على العاملين الانشغال بوسائل للدخل الإضافى عن أعمالهم)، وكذا بصيانة وإصلاح هياكل السكك الحديدية (وقد ثبتت أيضا ضرورية هذا المطلب مع غياب وسائل الحماية والتأمين)، وأما اعتصام الأطباء فكان مما طالب به زيادة الإنفاق على قطاع الصحة لجعل المستشفيات أكثر آدمية، وهو طلب ظهرت جديته مع الفقر الذى كانت عليه المستشفى الذى استقبل المصابين.

 

ولا تزال الدولة تتخذ موقفا سلبيا من الإضرابات، متذرعة بالحاجة للاستقرار، الذى تسعى إليه بإرضاء الأطراف الأقوى (لم يطلب الأطباء لزيادة رواتبهم أى موارد إضافية من الدولة، وإنما طلبوا إعادة هيكلة الأجور فى إطار ما تنفقه الدولة بالفعل، ويذهب جله للمقربين من المستشارين)، وزعم عدم توافر الموارد، وهى ــ بهذا السعى للاستقرار الهادف للحفاظ على الاقتصاد ــ تساهم فى إهدار ما هو أثمن من الاقتصاد.

 

أما ثالث الأبعاد فالسياسى/الإدارى، ويتعلق بغياب المعايير المنضبطة المعلنة الحاكمة لاختيار المسئولين، وقد ظهر ذلك فى حالة محافظ أسيوط، الذى انحصرت مؤهلاته الإدارية فى كونه قياديا بحزب الرئيس، مع عدم وجود سابقة مشاركة له فى الإدارة السياسية أو المحلية، رغم أن مهام عمله تحتاج لخبرات وكفاءات إدارية، ودراية ببنية الدولة، ورغم أن الحزب لديه فى المحافظة ذاتها من هم أكثر اتصالا منه بالعمل السياسى (لديه فى الانتخابات السابقة وحدها 12 عضوا بمجلس الشعب)، فكان تقديم الحزب لأهل الثقة، وإن على حساب الكفاءة، طلبا للهدوء والاستقرار، سببا فى إراقة المزيد من الدماء.

 

••• 

 

تمام الاستقلال الوطنى يستوجب مراجعة سياسة مصر الخارجية، على نحو ينزع عنها وصف «الكنز الاستراتيجى لإسرائيل،» ويخرجها من الهيمنة الأمريكية، ليصير القرار ــ فى السياسة الخارجية وغيرها ــ معبرا عن إرادة الجماعة الوطنية، ومن تجليات السياسة الخارجية المستقلة تغير الموقف تجاه فلسطين، باتخاذ مواقف تعبر عن الانحياز للحق الفلسطينى والأمن القومى المصرى، والانحياز للمقاومة ومشروعها، وهو ما استمرت الحكومة فى تجنبه خلال الأشهر الماضية، تجنبا لإغضاب الأطراف الأقوى فى المعادلة الإقليمية والدولية (الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما فى الخليج)، لئلا يؤثر إغضابها سلبا على استقرار الأوضاع.

 

لم تكتف الحكومة بالموقف المحايد، بل شاركت فى إضعاف غزة باستمرار حصارها، وضرب الأنفاق، وضرب التنظيمات السيناوية المؤيدة لها (لم تفرق بين التنظيمات التى تستهدف أمن البلاد، وتلك التى تحمى ظهر المقاومة، وتحمى أمن سيناء المفرغة ــ بحكم كامب ديفيد ــ من جيش يحميها)، واستمرت فى السماح بمرور شحنات الأسلحة للإسرائيليين عبر قناة السويس (بحسب تقرير نشرته صحيفة هاآرتس فى 30 أكتوبر)، فكانت من نتائج هذه السياسات أن وجدت إسرائيل الظرف مواتيا لشن عملية عسكرية كبيرة على غزة، سالت فيها ــ ولا تزال ــ الدماء.

 

وأمام مشهد الحرب، اضطرت الدولة لمحاولة خلع عباءة تفاهمات الغرف المغلقة، واضطرت للمضى ــ وإن ببطء ــ فى سبيل لا ترضى الأقوياء، إذ بدأت فى مراجعة سياساتها وتقديم بعض الدعم للقطاع، بعد أن تكلف القطاع ثمنا أعلى من الأرواح.

 

•••

 

يبدو الاستقرار على الأوضاع غير الصحية أعلى كلفة من السعى لتغييرها، ويبدو الأمل فى الاستقرار على أوضاع غير صحية متوهما لاستحالته العملية، إذ وجود تلك الأوضاع هو الذى أدى للثورة فى أول الأمر، ومساعى التغيير تستند إلى حقوق لا تستقيم الحياة الاجتماعية بتجاهلها، وثمة ثمن يبذل فى لفت الأنظار إليها والدفع من أجلها، طوعا فى الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات وتغيير السياسات، أو كرها باستمرار إنتاج السياسات القاتلة التى تختار ضحاياها عشوائيا وإن لم يكونوا يعارضونها، والثمن فى المواجهات الطوعية أقل منه عند الانتظار السلبى.

 

للشاعر تميم البرغوثى قصيدة كتبها بعد انتصار غزة السابق على إسرائيل وصمودها فى مواجهة العدوان سنة 2009، يقول فيها: والحرب واعظة تنادينا: لقد سلم المقاتل والذين بدورهم قتلوا، نعم هذا قضاء الله لكن، ربما سلموا إذا كان الجميع مقاتلين

التعليقات