دم على البلاط - تميم البرغوثى - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دم على البلاط

نشر فى : الثلاثاء 25 أكتوبر 2011 - 9:15 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 25 أكتوبر 2011 - 9:15 ص

دم على البلاط، جثث فى الممرات، حرائق فى الشوارع، مذيع الأخبار يطلب من الناس أن ينصروا المسلحين على العُزَّل وأن يساعدوا المدرعات فى صد هجوم الحفاة، أكثر من عشرين شهيدا من المدنيين فى مظاهرة واحدة، لم يكن ينقص إلا قنابل الفسفور ليتطابق المشهد المصرى مع مشاهد فلسطينية وعراقية ولبنانية نعرفها. ليست الكتابة متأخرة، بل تعمدت تأخيرها لكى يذكر من نسى. مقتلة المسيحيين التى جرت أمام مبنى التلفزيون المصرى لا يجب أن تنسى، ويجب أن تسجل فى التاريخ المصرى كغيرها من العلامات الفارقة. إن مذبحة دنشواى لم يصل ضحاياها إلى هذا العدد. وبغض النظر عن العدد، فإن بنية المجازر واحدة، المسلَّح يقتل العُزَّل ويزعم إعلامُه أنه كان يدافع عن نفسه أمامهم أو أنهم كانوا مسلحين أو أن مسلحين اندسوا بينهم، أو أن جنوده لم يطلقوا النار على أحد بل قامت ميلشيات أخرى غير خاضعة لقيادته بالمذبحة. أذكركم بأن هذه بالضبط، وبالحرف الواحد، كانت حجج شارون فى مذبحة صبرا وشاتيلا، قالوا إن المخيمات احتوت على مسلحين وأن الجنود كانوا يدافعون عن أنفسهم، ثم لما لم يُجْدِ ذلك نفعا ألقوا باللوم كاملا على الميليشيات اللبنانية وكأنها لم تكن تعمل تحت إمرتهم. وكانت هذه بالضبط حجج الأمريكيين فى الفلوجة، قالوا إنهم دخلوا لتطهير البلد من المسلحين، ولما قُتل من قُتل من المدنيين زعموا أن الميليشيات العراقية المتحالفة معهم هى المسؤولة عن المذبحة وكأنهم لم يأمروها بذلك، وكأن قائد الميليشيا له أولوية على قائد الفيلق والكتيبة. «أغيار يقتلون أغيارا ويتهمون اليهود»، كان مناحم بيغن يقول عن مذابح لبنان، وكان رامسفيلد يقول «سيأخذ العراقيون وقتا حتى يتعلموا أن يعيشوا سويا»، واليوم نسمع من يقول «هم مواطنون يقتلون مواطنين، بعض الشعب يقتل بعضه الآخر ويتهمون الحكومة»، يقتلوننا ثم يقولون أنتم طائفيون يقتل بعضكم بعضا.  أقول إن بنية المجزرة واحدة، وكأن من يرتكبونها يدرسون فى معهد عالمى واحد للمجازر، وبنية الاستبداد واحدة، الاستبداد يحب الطائفية، لأنها تُحَوِّلُهُ مِنْ مُشْكِلَةٍ إلى حَلّ، ومن خصم إلى حكم. نعم كان هناك طرف يطلق النار على المسلمين والمسيحيين معا، ولكنه لم يكن طرفا مندسا أو خفيا، كان شديد العلنيةشاكى السِّلاح مُصَفَّحَ الرُّوح، ومن قتل الإسلاميين فى جبال سيناء وحقول قصب الصعيد وزنازين السجون فى مصر كلها، قتل المسيحيين تحت ذلك الجسر القاهرى الطويل. هى الهراوة نفسها، ولها إعلام يدهنها بألوان العَلَم، ويجبر كل إعلام آخر على السكوت. مذيع القناة الأولى على الهواء يدعو للاقتتال الأهلى ويسرى فودة يتم الضغط عليه فيعتكف حفظا لمهنيته وكرامته، لقد جعل يسرى «آخر كلام» للناس ورفض أن تكون الكلمة الأخيرة للهراوة، فمنعت الحكومة «الثورية» الكلام كله أوله وآخره.

 

●●●

 

والذى حدث فى ماسبيرو مرعب لأنه جزء من سلسلة، منذ تنحى مبارك وآلة القمع تضرب الأطراف الأضعف ثم الأقل ضعفا، كأنها يد تتدرب لمباراة حاسمة، فقد هوجمت مظاهرات يوم المرأة، ثم من تبقى معتصما فى التحرير، ثم أُمِرَ المتظاهرون عند السفارة الإسرائيلية فى مايو بالزحف على ركبهم كأسرى الحرب، ثم قُتِلَ عدد من سائقى الحافلات الصغيرة وسيارات الأجرة بالتعذيب، ثم هوجم أهالى الشهداء وأصيب قرابة الألف منهم، ثم هوجم من اعتصموا احتجاجا على مهاجمة أهالى الشهداء، ثم أطلقت النار على المسيحيين. فى كل مرة كانت الفئة المستهدفة فئة تظن السلطة أن لا ناصر لها من الناس، وأن ضربها سيمر مرور الكرام. إن كل سكوت على مثل هذه الأحداث يعرض الساكت عنها للخطر، إن هذه اليد التى تتمرن على الضرب تظهر لى وكأنها تعالج نفسها بعد إصابتها فى يناير، وهى لم تزل تكبر وتشتد مع كل ضربة، ولم نزل نحن نفترق على أساس أن المصاب سوانا.

 

فإذا سمعت إسلاميا خائفا على هوية البلد، فأبلغه أن لا خطر عليها من المسيحيين إنما الخطر عليها ممن أراد فصل مصر عن أمتها العربية والإسلامية وأن يسالم إسرائيل وأمريكا ويعادى إيران والعراق وحزب الله وحماس، وإذا سمعت مسيحيا خائفا على حقوقه وحياته فأبلغه أن الخطر عليه ليس من جاره المسلم بل من هذا الوابل من الرصاص الذى انهمر عليه فى ماسبيرو. وإذا رأيت شيخا يهاجم المسيحيين فقل له أن يخجل، ويقرأ فى صحيفة أهل يثرب أن من قاتلوا مع المسلمين أمةٌ معهم لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وإذا رأيت مسيحيا تراوده أفكار الحماية الدولية فأحضر له قنابل الغاز التى ألقيت عليه فى ماسبيرو واسأله أين صُنعت وبأمر من استُخدمت. وإذا حيرتك مسألة الهوية فاسأل الناس وقل لهم من الخواجة ومن ابن البلد، فلا جمال الدين الأفغانى خواجة ولا مكرم عبيد خواجة.

 

لقد قامت هذه الثورة لخلع الظلم لا لاستبدال الظالمين بالظالمين، وظُلْمٌ أن يُقتل المسيحيون فلا ينصرهم المسلمون بل والإسلاميون تحديدا، وظُلم أن يلام الضعيف ويُعذَر القوى، وظُلم أن تكون هناك مدرعات فى الطرق، بينما اللصوص فى الزوايا والغزاة على الحدود.

 

●●●

 

إن حالة اليأس والإحباط التى أصابت من أعرف من الناس بعد هذه المجزرة لن تدوم، بل هى تتحول مع الأيام إلى استنتاجات واضحة حول سلمية الثورة وشرعية الحكم وجدوى القانون والأحزاب والجماعات الرسمية. لقد تعبت هذه الثورة وهى تبحث عن قادة فلم تفلح. انتزع الناس عرش مصر من حراسه وحملوه وداروا به على بيوت قادتهم السياسيين فلم يفتحوا لهم بابا وراحوا يستأذنون الحرس القديم ماذا يفعلون. ولم يستطع قادة الأحزاب ومرشدو الجماعات والمرشحون أن يتوحدوا حتى يفككوا آلة القمع فيحموا دماء الناس ثم يختلفوا بعد ذلك على هواهم، وقديما قال لهم الشباب، شباب من حملاتهم ومن تنظيماتهم، إن ثمن تقاعسكم هذا دم سيجرى، وقد جرى. لو أن لهذه الثورة قيادة يخافها الحُكام لما أقدموا على قتل رجل واحد دون أن يفكروا فى الثمن. ولكن ربما كانت نعمة هذه الثورة أنها بلا قيادة، والقواعد والشباب والناس فى البيوت يعملون معا كل يوم، وأكاد أزعم أن لكل قارئ من قراء هذه السطور صديقا إسلاميا وآخر ليبراليا وثالثا يساريا وأنهم جميعا يستطيعون العمل معا على استكمال هذه الثورة وأن الوصول إلى إجماع بينهم ممكن، فى السياسية الخارجية والداخلية والاقتصاد على الأقل. أقول ربما كانت هذه المقتلة جرسا يخبرنا أن لا أحد يحمينا إلا نحن، أما أحزابنا وتنظيماتنافلا خير يرجى منهم إلا من رحم ربى.

تميم البرغوثى استشاري بالأمم المتحدة
التعليقات