الزهور والخرطوش: من قتل شيماء؟ - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:05 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الزهور والخرطوش: من قتل شيماء؟

نشر فى : الإثنين 26 يناير 2015 - 8:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 26 يناير 2015 - 8:15 ص

فى التجربة العميقة لأجيال جديدة من المصريين فإن طلب الحرية له الأولوية على أى طلب آخر.

ورغم أية انكسارات وهزائم فهو ملهم لأى معنى فى الحياة والتراجع عنه شبه مستحيل.

هذه حقيقة يصعب إغفالها وإلا فإن أية سياسة مرشحة للارتطام بحائط مسدود.

وقد كان مقتل الناشطة اليسارية «شيماء الصباغ» شهادة جديدة على طلب لا يموت.

ما هو رمزى فى هذه الواقعة المفجعة يتجاوز أثر الخرطوش الذى اغتالها.

هى واحدة من مئات الآلاف من شباب هذا البلد الذين تصدروا مشاهد ثورة يناير، لا كانوا يبحثون عن سلطة ولا يأملون فى كسب.

كانت الثورة شابة فى روحها وخيالها وأهدافها غير أن ما حسم الإطاحة بحكم «حسنى مبارك» هو انضمام عشرات الملايين من المصريين العاديين إلى ميادينها.

الأحلام حلقت فى آفاقها بقدر التضحيات التى بذلت والدماء التى سالت لكن الثورة اختطفت وذهبت جوائزها لغير أصحابها.

من مواجهة إلى أخرى ومن إحباط إلى آخر تداخلت الأحلام المحلقة مع الكوابيس المقيمة.

وقد كانت كجيلها تحلم بما لا ترى وتعتقد أن دماء الشهداء يجب ألا تذهب هدرا.

لست فى حاجة أن تعرفها حتى تدرك هذه الحقيقة التى استقرت فى ذاكرة ووجدان كل من شاركوا فى يناير وشاهدوا سقوط الشهداء دون أن يروا حسابا جنائيا أو أن يكون هناك عقاب مستحق.

خامرتها المشاعر الإنسانية التى تتعاطف مع من سقطوا دون أن تفضى تضحياتهم إلى تغيير حقيقى فى بنية النظام، فقد سقط رأسه وبقى بنيانه.

تصورت أن باقات زهور تضعها على نصب الشهداء فى ميدان التحرير مع عدد محدود للغاية من زملائها رسالة رمزية «أننا لم ننساكم» و«لا نسينا قضيتكم» غير أنها لحقتهم وروحها تدعو إلى عدم نسيان كل معنى وكل تضحية.

بالتجربة الإنسانية فهى من الذين حلموا وأحبطوا لكنهم لم ييئسوا.

وبالتكوين الفكرى فهى يسارية، لا متطرفة ولا تدعو إلى عنف، وقد شاركت فى «يونيو» لتصحيح وتصويب «يناير» التى جرى اختطافها.

بمعنى رمزى فإن قتلها استهدف روح «يناير» و«يونيو» معا وأى معنى دستورى وقانونى وإنسانى فى هذا البلد.

الزهور تناثرت فى المكان ورائحة الدم سادت أرجاءه بلا سبب أو مبرر إلا أن تكون القوة قد أفلتت من عيارها ودولة القانون ديست بالأقدام الغليظة.

الكلام الرسمى يؤكد أن التحقيقات سوف تجرى وأن الجناة سوف يقدمون للعدالة، وهذا ضرورى شرط أن يكون جديا ونتائجه مصدقة من الرأى العام.

لا أحد يستبق التحقيقات باتهاماته غير أن الشواهد مفزعة وشهود الواقعة فى حالة ذهول.

لماذا قتلت «شيماء»؟

السؤال بذاته يجرح الضمير العام ويشكك فى الحاضر.

من الوهم تصور أن اغتيالها سوف يطويه الوقت، ففى مثل هذه القضايا تغلب الرموز ما عداها، وما هو رمزى يستحيل أن يوارى أو يدلس عليه.

بلغة الرموز التى تلخص وتدمج المعانى فإن «شيماء» بسلميتها المفرطة وبساطة قضيتها نموذج مثالى لتعبير سلمى جرى اغتياله بلا ضمير.

كأنها «أيقونة جديدة» تلهم التغيير وتدين كل ممارسة تنتهك القانون وأى تغول على الحريات العامة.

سوف تعيش أطول من قاتليها وذكرها سوف يعلو فوق نصوص قانون «التظاهر» المجحف.

فى صورة زوجها وهو يحملها مضرجة بدمها أقوى شهادة إدانة أمام مجتمعها وعالمها لقانون هو العار بذاته.

كل مواطن مصرى يحترم نفسه لابد أن يشعر بأنها أخته أو ابنته وأن دمها يجب ألا يضيع هدرا.

بلغة الرموز ذاتها جسدت «شيماء» فكرة والأفكار لا تموت بطلقات الخرطوش.

الفكرة أن «يناير» حقيقة كبرى يصعب تجاوزها دون أثمان باهظة وأى احتمال لعودة الماضى يفتح أبواب جهنم فى هذا البلد الذى يسعى بالكاد أن يتعافى اقتصاديا وأمنيا.

ووراء الفكرة قضية العجز الفادح فى إدارة معادلة «الأمن والحرية».

المعادلة بلا إجابة، كأن الحرية زائدة سياسية يمكن التخلص من صداعها وكأن الأمن بلا سياسة قادر على الوفاء بمهامه.

فى حالة «شيماء» المفارقات مفجعة.

فى اليوم السابق لاغتيالها تظاهرت مجموعات مسلحة فى المكان نفسه، والتقطت الشرائط المصورة لمسلحين يطلقون الخرطوش ويروعون المارة دون أن نسمع عن مواجهة رادعة تستحقها تظاهرات السلاح.

أين كان الأمن فى مظاهرات السلاح؟.. هذا سؤال ضرورى.

ومن قتل شيماء فى مظاهرات الزهور؟.. هذا سؤال آخر لا مفر من إجابته والتحقيق الجدى فيه وإحالة المجرمين إلى العدالة أيا كانوا.

التدليس ليس اختيارا، كأن يدمج على نحو غير أخلاقى بين مظاهرات السلاح ومظاهرات الزهور.

واستهلاك الوقت ليس حلا، كأن يطول الحديث وتتواتر الإدانات الرسمية دون إجراءات تقنع وتعاقب وتصحح مواطن الخلل.

الثأر بالقانون والانتقام بالعدالة لدم «شيماء» ثأر لكل مصرى يطلب الحرية والأمن معا وانتقام من أى تغول على الحق فى الحياة.

وهذه مسألة دولة.

كل شىء على محك الاختبار الآن، فإما أن يكون هناك قانون أو لا يكون، أن يكون هناك احترام للحق فى الحياة أو لا يكون، أن تنضبط مؤسسة الشرطة على القواعد الدستورية أو أن يفلت كل شىء ويتفشى الإرهاب من ثغرات السياسة والأمن، فالذين تنتهك كراماتهم لا يمكن توقع أن يكونوا ظهيرا شعبيا فى أية مواجهة مع الإرهاب.

الانتهاكات تساعد على نمو البيئات الحاضنة لأى عنف وإرهاب. هذه حقيقة يفضى إهدارها إلى أوخم النتائج.

فى كل يوم يسقط شهداء جدد من قوات الأمن والدولة مستهدفة فى قدراتها من خطوط السكك الحديدية إلى أبراج الكهرباء وخطوط الغاز.

وهذا قد يغرى بالتغول الأمنى وعلو نداءات «الضرب فى المليان» كأنها محفوظات تتلى دون أن تترك أثرا يردع، وفى بعض الحالات فإن أكثر الناس سلمية هم وحدهم الذين يدفعون الثمن.

باليقين فإن الحرب مع الإرهاب سوف تطول وتماسك الظهير الشعبى يتطلب ردع أى تغول أمنى على المواطنين، فالتغول يضرب أول ما يضرب فى سلامة الدولة وقواتها الأمنية.

لسنا فى حاجة إلى شهداء جدد لنتعلم أن مصر لن تحكم مرة أخرى بالأساليب القديمة كأنها لم تتعلم شيئا من تقويض جهازها الأمنى فى ثورة «يناير».

إصلاح الجهاز الأمنى وإعادة تأهيله وفق القواعد الحديثة من متطلبات أية إدارة كفؤة للحرب مع الإرهاب وردع أية انفلاتات تنزع عن أى مواطن كرامته مسألة يتقرر على أساسها مستقبل نظام الحكم نفسه.

ما تحتاج إليه مصر الآن أن تقف أمام المرآة وترى الحقيقة بلا رتوش فى اغتيال «شيماء».