«مقاهى» فى حياتى - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:13 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«مقاهى» فى حياتى

نشر فى : الثلاثاء 26 فبراير 2019 - 11:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 فبراير 2019 - 11:40 م

أظن أن النادل فى «قهوة المالية» لم يبخل بنظرة عدم ارتياح فى كل مرة دخلت إلى مقهاه وجلست انتظر زملاء يستقلون معى الأتوبيس الذى سوف ينقلنا إلى ميدان الفلكى، فمن هناك يقلنا الأتوبيس (ج) إلى جامعة القاهرة. لم تكن هى النظرة التى يستقبلنى بها عندما أدخل إلى المقهى زبونا تابعا، أى فى رفقة الوالد أو أستاذى المفضل. لا شك أنه كان فى تصورى الساذج أن باستطاعتى أن أستخدم المقهى محطة انتظار باعتبارى واحدا من قادة شباب الحى أو لزياراتى المتفرقة للمقهى مع أحد الكبار المرموقين كأستاذى مثلا.
***
تقابلنا عند مدخل الكلية. سألتنى زميلتى إلى أين العزم؟.. أجبت إلى وسط البلد لأتسكع، فاليوم السبت وأنا لا أعمل فيه. قالت إنها كذلك حرة من أى التزامات وتتمنى لو فعلت مثل الصبيان وتسكعت. سألتها كيف تتجرأين وأنت مخطوبة، قالت ليس له عندى أكثر من حقه فى ألا يسمع منى كذبا. توقفت عن السير ثم تقدمت خطوة لتقف أمامى وتنظر فى وجهى وتقول «أما وقد تحديت جسارتى فمن حقى أن أبادلك التحدى. هل تتجاسر وتدعونى لتناول مشروب فى (قهوة) فى حى محافظ من أحياء القاهرة االعتيقة». قبلت التحدى وفى نيتى رفع مستواه سعيا وراء انبهار أعظم.
***
نزلنا من الترام فى محطة باب الشعرية ومشينا فى اتجاه شارع أمير الجيوش الجوانى، (مرجوش) بلغة أهل الحى. قادتنا أقدامنا إلى حيث الضجة العالية، أصوات دق النحاسين على النحاس ومعادن أخرى حتى وصلنا قلب الجمالية. يمينا ينزل الشارع فى اتجاه مسجد الحسين فى شارع المعز ويسارا يصعد فى اتجاه أسوار القاهرة وبابى الفتوح والنصر. قبلها انعطفنا غربا فى أزقة ضيقة نفذنا من واحد منها إلى شارع بين النهدين، حيث قامت أهم وكالات بيع السمنة البلدية والزيوت النباتية. وصلنا بعد التسكع إلى مبتغاى، الحى الذى اشتهر سكانه بطباع القاهرة السلطانية. هنا تعيش وتنشط بتركيز عال فئتان، فئة الفتوات وهذه اشتهرت بتفوقها العضلى وفئة الفهلوية وتميزت بتفوقها فى الذكاء (البلدي).
اخترت أحد المقاهى ومقعدين بينهما مائدة معدنية غير مستقرة تماما على الأرض المرشوشة دائما بالماء. بعد قليل أطل علينا نادل يرتدى جلبابا مرفوعا ذيله كاشفا عن سروال تتدلى من وسطه نهايتا حبل تحررتا من عقدة كانت لاشك تقيد حركتهما. قال بلهجة وسطية، أى بحزم يختلط بميوعة مقلقة، «المعلمة بتقوللكم ما تطولوش القعدة علشان المعلمين والأفندية زمانهم جايين ولو شافوا حرمة قاعدة فى القهوة يمكن يزعلوا، وزعلهم وحش». شربنا القرفة بالجنزبيل واستأنفنا المشى فى اتجاه العباسية. أذكر أنى عدت إلى هذه القهوة بعد خمس عشرة عاما أثناء إعدادى ورقة عن مفهوم القوة فى المجتمعات المحلية المصرية. علقت بذهنى صورة المعلمة وهى تدير مجتمعا ذكوريا بامتياز. عدت إليها مرارا وتحدثنا طويلا. كانت حالة من حالات استحقت الغوص فيها بعمق واستخلصت منها دروسا قيمة وباقية.
***
لى فى كل مدينة عشت فيها مقهى أعزه. كان لشباب الدبلوماسيين فى الهند مقهى باسم جايلورد Gaylord وسط العاصمة نيودلهى نجتمع فيه مساء كل أحد. النهار نقضيه فى النادى الرياضى الاجتماعى الذى يحمل فى كل جنباته وصالاته وملاعبه سمات نادى الجزيرة فى جزيرة الزمالك بالعاصمة المصرية، والمساء نقضيه فى مقهى الجايلورد. فى النهار مسلطة علينا فى النادى نظرات رؤسائنا من سفراء وقناصل وزوجاتهم وبناتهم، وفى المساء نتحرر أو نتمرد فى مقهانا، مكان لا يدخله من لم يكن شابا فى العمر وفى الروح وفى خاصية التمرد.
فى روما، كان لنا معشر الشباب مقهى فى موقع وسط بين مقرى سفارتى مصر، سفارتها لدى الجمهورية الإيطالية وسفارتها لدى دولة الفاتيكان. الأونجاريا Hungaria مقهى يقع على الطريق إلى سانتا لوتشيا Santa Lucia المطعم الذى نادرا ما خلى من واحد من أعضاء السفارتين زبونا على غداء أو عشاء. كنا عندما يفيض الخير فى أوائل الشهر ننتقل أيام العطلة إلى شارع فينيتو Via Veneto حيث المقاهى عالمية الشهرة والمكانة والتكلفة أيضا. هناك نقضى الساعات على مقاعد وثيرة فى كافيه دو باري De Paris أو فى مقهى الدونيه Doney نمارس سلوك السياح الأمريكيين والآتين من شمال أوروبا، نتفرج على المارين أمامنا ويتفرجون علينا.
***
عشت عمرى أحلم بأن أرى فى بلدى مقاهى بمواصفات أحببتها. مقاهى عشقتها. إن نسيت فلن أنسى مقهى كوين بيس Queen Bess الواقع على شارع سانتا فيه Santa Fe أحد أشهر وأطول شوارع التسوق فى الأرجنتين بل وفى العالم فى ذلك الوقت. فى هذا المقهى، ولم يكن بعيدا عن مقر عملى. أتوجه إليه بعد الظهر لتناول مشروب منعش استعدادا لسهرة حتمية لا بد منها. ففى الشوارع وراء المقهى تعمل حتى الصباح أعظم مسارح العاصمة بيونس أيرس وأقدم المقاهى المسموح فيها بممارسة رقصة التانجو على أنغام يعزفها فنانون محترفون. مقاهى التانجو كانت تبدو لى باردة فأثاثها قديم وكراسيها غير مريحة وأرضيتها رخامية ونوافذها عالية حتى السقف وأبوابها أيضا. ولكنك لن تشعر بالبرد فالتانجو رقصة دافئة وأنغامها حزينة والحب المفقود لغتها. عشت بعد سنوات مثمرة قضيتها متنقلا بين سنتياجو وبيونس أيرس ومونتيفيديو أقول لأصدقائى إن فى التانجو لا أحد يمل أو يشرد راقصا كان أم متفرجا أم مستمعا.
***
مقاهٍ عديدة لا أنساها. كيف أنسى المقهى فوق الجبل المطل بجليده فى فصل الشتاء على مدينة سنتياجو عاصمة تشيلى. كيف أنساه وقد تعلمت فى إحدى قاعاته وبعض حدائقه وعلى مقاعده الحجرية النطق بالإسبانية إحدى أحلى اللغات نطقا وسمعا وكتابة. لولا هذا المقهى ما أحببت أمريكا اللاتينية أو استمتعت بعد مرور عقدين بغناء وصوت خوليو إيجلسياس. لولاه، وأقصد المقهى فوق الجبل، ما تعلمت أن بين الصداقة والحب شعرة لن تعرف مهما امتد بك العمر متى تختفى ومتى تعود.
***
لن أنسى المقهى فوق الجبل، ولكنى لن أنسى أيضا مقهى بسيط المظهر فى فيينا مدينة المقاهى الراقية. أذكر دائما وأنا اقرأ عن تاريخ قيام وسقوط الإمبراطوريات قصة ظهور المقاهى فى العاصمة النمساوية. قيل إن الجنود العثمانيين خلفوا وراءهم عند التلال المحيطة بالعاصمة آلاف الزكائب المحشوة بالبن ليستولى عليها جنود التحالف العسكرى الذى أجبر العثمانيين على الانسحاب فتغير بانسحابهم وجه أوروبا ومزاج شعب النمسا. أذكر لقاء ثنائيا فى مقهى بسيط بالعاصمة النمساوية جمعنى بمحمد البرادعى استعدادا لتسجيل مقابلة صحفية ساهمت عندما نشرت فى رسم قسمات أيام فى مرحلة هامة من مراحل تطور الأمة المصرية. كانت ليلة باردة والشوارع مغطاة بالثلج وكل همى تلك الليلة الترتيب مع الدكتور البرادعى لمقابلة لا تخضع لاعتبارات مصالح أضيق من اعتبار مصلحة الوطن. وبالفعل أجرينا المقابلة فى اليوم التالى حسب الموعد المتفق عليه فى بيته فى حضور وفد من الصحيفة، أجريناها كما أعددنا لها كلانا، البرادعى وأنا، فى الليلة الفائتة خلال ساعات من نقاش صريح فى مقهى بسيط فى مدينة تزخر بعشرات المقاهى التاريخية الرائعة.
كان عزائى أننى قبل سنوات غير قليلة قضيت بعض إجازاتى فى هذه المدينة الساحرة أتنقل بين المقاهى أحتسى أجود أنواع القهوة وأتذوق أطيب أنواع الحلوى وأنصت إلى أعذب الألحان تصدرها قيثارة تعزف عليها أصابع امرأة فى فستان أسود أنيق وشعر أصفر منسدل على كتفيها. لم أبالغ أيامها عندما كنت أدور بعد كل زيارة للنمسا أشرح تقاليد شرب القهوة هناك وأقول للناس «هذه طقوس مارسوها مع شرب القهوة أو انسوا القهوة من أساسها».
***
انتهى الوقت ولم آت على كل حكاياتى مع المقاهى.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي