آخر الانطباعات عن آسيا - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آخر الانطباعات عن آسيا

نشر فى : الأربعاء 27 يونيو 2018 - 9:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 يونيو 2018 - 9:15 م

لم أعرف شخصا يكره آخر كراهية دونالد ترامب لباراك أوباما. عرفت كره سير أنتونى إيدن رئيس وزراء بريطانيا العظمى للرئيس المصرى جمال عبدالناصر وكان كرهًا مضرب الأمثال إلا أنه كان مفهوما وربما مبررا. ما لم يكن مفهوما رغم صدق المحاولة للفهم ولا يزال غير مفهوم مدى كره الرئيس الحالى للولايات المتحدة لسلفه. كثيرون فى التاريخ وصلوا إلى الحكم مستفيدين من أخطاء أسلافهم، أكثر منهم أولئك الذين أخذوا على عاتقهم محو آثار من سبقوهم. لدينا فى اللحظة السياسية المعاصرة مثالا نموذجيا، وأقصد الرئيس ترامب، الرجل الذى قرر، مع تيار سياسى شعبوى لم نكتشف وجوده وتأثيره إلا متأخرا، إعادة أمريكا إلى وضع الدولة الأعظم وذلك بإزالة كل المظاهر والأسباب التى يمكن أن تكون تسببت فى انحدار أمريكا وصعود دولة أو دول أخرى لتشاركها القمة أو لتحل محلها فيها. لا يخفى على كثيرين أن ترامب يعتقد اعتقادا جازما أن عهد أوباما وشريكته هيلارى كلينتون يتحمل قسطا كبيرا من مسئولية هذا الانحدار. سمعنا عددا كبيرا من خطب وتصريحات ترامب وقرأنا بعض تغريداته المثيرة للجدل ولم نعثر مرة واحدة على عبارة تقدير أو ثناء لسياسات أوباما الخارجية. لذلك كانت أياما مثيرة تلك التى قضاها المشتغلون فى حقل العلاقات الدولية وهم يراقبون جهود الرئيس ترامب بشخصه وبأجهزة الأمن والسياسة الخارجية التابعة له وهو ينفذ خطة الرئيس أوباما القاضية بتحويل معظم الاهتمام الأمريكى من التركيز على أوروبا والشرق الأوسط إلى التركيز على آسيا وبخاصة شرق آسيا. هذا التحويل كان أحد إبداعات أوباما ولم تسمح له الظروف وقتها، وبخاصة نشوب الحرب فى سوريا، تحقيق هذا الحلم فى عهده. الآن ترامب يحققه ولا يعترف بفضل أوباما وأفضال آخرين فى آسيا. عالم اليوم مختلف عن عالم أوباما ويجب أن نعترف أن لأوباما دورا ولكن لترامب شخصيا الفضل النهائى.
***
لا أبالغ عن عمد فى تصوير حجم ونوع التغيير الحادث فى آسيا. ربما كنت واقعا تحت تأثير هذا الفيض غير المألوف من المعلومات والتحليلات على شخص يتابع تطورات آسيا منذ سنوات عديدة. أتابع عادة مؤتمرات قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا المعروفة بالآسيان، هذه المنظمة الإقليمية التى تعمل لتحقيق أهداف متواضعة بخطوات بطيئة ولكن متدرجة. ركزوا على الاقتصاد وفتح الأسواق لمنتجاتهم وتنسيق سياساتهم الاقتصادية وتحسين المستويات الفنية فى قطاعات بعينها مثل الجمارك وسلامة الغذاء وبناء الإنسان. دفعنى للاهتمام بها اهتمامى بتجربة إقليمية عربية وصلت إلى حافة السقوط ومنا من لا يزال يأمل أو يحلم. فجأة وخلال العامين الأخيرين وجدت الآسيان نفسها تحت ضغوط من جهات عديدة تسعى لتغيير مسيرتها وأهدافها. اجتمعت قمة المنظمة فى إبريل الماضى فى ضيافة أستراليا التى تسعى بكل حماسة ممكنة للانضمام. أهداف أستراليا فى الانضمام لا تخفى منذ أن خرجت الصين الجديدة إلى محيطها مزودة بطاقة استثمارية وسياسية هائلة فهى تريد الدعم الإقليمى الضرورى لمقاومة عمليات الاختراق الصينية. كثير من ساسة الإقليم بالإضافة إلى ساسة أستراليا يذكرون أن مجموعة الآسيان مدينة بنشأتها فى بانجكوك فى عام 1967 إلى حال التوتر والاضطراب فى الإقليم بسبب التهديد الشيوعى الصينى المباشر لكل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند. أستراليا تعيد تذكرهم بهذا الخطر الصينى يأتيهم اليوم فى أشكال مختلفة. من ناحية أخرى، نما إلى علمهم نية الولايات المتحدة بناء منظومة دفاعية جديدة. بعد أيام على انعقاد قمة سيدنى بأستراليا انعقدت فى سنغافورة قمة أخرى للآسيان بدون أستراليا.
وفى سنغافورة وبعد أسابيع قليلة من انعقاد قمة الآسيان اجتمع عدد وفير من خبراء الدفاع والأمن فى مؤتمر يحمل اسم المنتجع الشهير الذى ينعقد فيه سنويا مؤتمر حوار «شانجرى ـلا». اعتدنا فى السنوات الماضية على أن يصدر عن المؤتمر أفكار تقليدية وأن يركز المؤتمرون على قضايا التطرف العرقى فى ميانمار وإندونيسيا وتهريب المخدرات. كان حوار شانجرى ــ لا يزيد فى تلك السنوات عن كونه صورة آسيوية باهتة لمؤتمر الأمن الذى يعقد سنويا فى مدينة ميونيخ بولاية بافاريا الألمانية، ويحضره خبراء من جميع أنحاء العالم. الحوار فى شانجرى ــ لا هذا العام كان مختلفا. أسباب ذلك ثلاثة على الأقل هى أولا: اللقاء الذى كان مرتقبا بين رئيس أمريكا ورئيس كوريا الشمالية، ثانيا: السباق على القمة الدولية يميل فجأة نحو سخونة وخشونة غير معهودتين فى السباق منذ بدايته. ثالثا: ولا محل لمناقشته بالتفصيل الذى يستحق فى مقالنا هذا، ضغوط دولية كبيرة لتسخين وتطوير السباق نحو القمة الأقليمية فى نظام آسيوى ناشئ، يكون للهند فيه دور بارز.
***
عن اللقاء الذى كان مرتقبا بين رئيس الولايات المتحدة ورئيس كوريا الشمالية ثم تحقق فى الثانى عشر من يونيو الجارى فى سنغافورة أستطيع أن أقول وبارتياح إنه كان بكل المقاييس حدثا تاريخيا. قد لا تتوصل مختلف الأطراف فى وقت قريب إلى تحقيق أغراضها منه إلا أنه يبقى أن اللقاء خط على أرض الأزمات فى شرق آسيا خطوطا جديدة لن تمحى بسهولة. كوريا الشمالية انتقلت خلال مفاوضات الإعداد للقاء وأثناءه من دولة مارقة إلى دولة تحظى بالاحترام ورئيسها من شاب أهوج قليل الخبرة والحنكة إلى مفاوض ماهر ورجل دولة جاهز لاحترام أعراف النظام الدولى. الصين من ناحيتها وجدت فى تطورات الموضوع فرصة لتؤكد محورية دورها فى أى تسوية تفكر فى التوصل إليها دول فى الإقليم أو دول عظمى فى شأن من شئون الإقليم. روسيا واليابان أسرعتا بالاعتراف بنشأة وضع جديد ليس فقط فى الإقليم بل وفى العالم. فى الوقت نفسه أدركت أوروبا أن الرئيس ترامب ما زال قادرا بأساليبه الشعبوية والمسرحية على إسقاط مسلّمات ومبادئ عديدة فى العمل السياسى الدولى لحساب أهداف وأفكار لا تزال محل جدل شديد على جميع مستويات النظام السياسى الأمريكى.
***
عن السباق الجارى منذ سنوات نحو القمة الدولية أتوقع أن يغير بعض المحللين الأمريكيين والأوروبيين الكثير من تحليلاتهم بخصوص سباق القمة بين الولايات المتحدة والصين. هذا البعض وعددهم قليل كان يعتقد أن السباق سوف يستمر هادئا وناعما إلى أن يستقر توازن جديد للقوة بين القطبين حتى مجىء يوم يقرران فيه تقاسم القيادة أو فتح السباق لانضمام أطراف ثالثة. أتصور أن التطورات الأخيرة فى آسيا قد تدفع هذا البعض إلى تغيير موقفه. أنا شخصيا بدأت أهتم بتطورات بعينها أكثر من غيرها مثل السرعة غير المألوفة والجرأة الغريبة والسلوكيات «الاختراقية»، وكلها علامات جديدة فى النشاط المحموم الذى دأبت الصين على ممارسته فى العامين الأخيرين فى تنفيذ سياساتها الخارجية. الصين التى التزمت عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى هى الآن تتدخل كما فى السودان وباكستان وميانمار وغيرها. الصين التى تعهدت بعدم إقامة قواعد عسكرية صينية فى الخارج هى الآن تحتفظ بقاعدة فى جيبوتى وتبنى مرفأ عميقا للغواصات قريبا من كولومبو عاصمة سيريلانكا وقاعدة بحرية فى كيوك بيو فى ميانمار وتشق طرقا بحرية وتقيم جزرا اصطناعية فى بحر الصين الجنوبى. الصين التى قاومت الهيمنة الرأسمالية والنفوذ الاستعمارى الغربى تشترى جزرا فى المحيط الهندى وتحصل على حقوق امتياز لمدة 99 عاما فى اتفاقات قروض واستثمار فى دول إفريقية وآسيوية عديدة وكذلك فى أمريكا الجنوبية وتدفع أجورا متدنية لعمال أفارقة وأسيويين وتمنع تكنولوجيات معينة عن دول نامية.

أتصور أن دولة أعلنت القمة هدفا لها وحددت موعد الانتهاء من السعى نحوها بالدقة الممكنة وهو عام 2049 وأسقطت كل عهودها وبخاصة مقاومة الهيمنة الدولية وتتسلح بأقصى ما تستطيع تطويره من أسلحة حديثة واستخدامات الذكاء الاصطناعى وإلى أبعد مما تستطيع وهو الفضاء الخارجى، هى دولة لا شك تستعد لاحتمالات مواجهة بالعنف مع الدول الأخرى الطامحة إلى القمة، وهى دولة دربت نفسها على استخدام درجات من العدوانية لقيادة عوالم محلية وإقليمية تسود فيها الفوضى أو الارتباك.
فى ظل هذا التطور النوعى فى السباق استطعنا فهم الأهمية الكبرى التى أولتها الصين إلى المؤتمر الذى عقد قبل أيام لقمة دول مجموعة شنغهاى. الرئيس بوتين حضر المؤتمر وكان مهتما فالصين الجيدة اخترقت دولا فى مناطق نفوذ روسيا تحت حجة مبادرة تجديد طريق الحرير. وفى الوقت نفسه انتهت من إقامة الممر الاقتصادى الذى ربط مناطق غرب الصين والملاصقة لدول وسط أسيا وجنوب روسيا بمرفأ جوادار الباكستانى على المحيط الهندى. بمعنى آخر الصين حققت لنفسها حلما عجزت الإمبراطورية الروسية عن تحقيقه على مر العصور. يحق للصين أن تقول للعالم، وأمريكا تحديدا، أنها تقود مجموعة دول تمثل أكثر من 40 % من سكان العالم وتسيطر على أغلب ثروات الكوكب.
***
أوباما لم يجانبه الصواب عندما قرر التحول بتركيز أمريكا من ساحة الغرب إلى ساحات الشرق، إلى آسيا. وترامب لم يخطئ عندما استثنى هذا القرار من حزم الكراهية التى يحملها للرئيس أوباما ولا يتوقف عن ترديدها والتنديد بها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي