عزالدين نجيب.. طليقا - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عزالدين نجيب.. طليقا

نشر فى : الثلاثاء 28 أبريل 2015 - 9:30 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 28 أبريل 2015 - 9:30 ص

فى بداية الستينيات، كان سور الأزبكية عامرا بالمجلات والكتب الحديثة، التى طرحت عند الباعة، مرة واحدة فقط. مجلة «المجلة» أو «الكاتب»، نجدهما بعد صدورهما بشهر واحد، وقد انخفض سعر النسخة، من عشرة قروش إلى قرشين فقط. كذلك الحال بالنسبة للكتب، وأيامها، كانت المجموعات القصصية هى الأكثر انتشارا، تطبعها دور النشر، أو تصدر على نفقة مؤلفيها، وفيما يبدو أن مشكلة تخزين الكتب دفعت بالجميع إلى بيعها لتجار السور، كى يشتريها، أمثالى من الشباب المفلس، بنقود قليلة.

فى إحدى المرات، لفت نظرى غلاف أسود، مرسوم فى نصفه الأعلى، باللون الأبيض، وجه رجل عجوز، بدت تجاعيد وجهه كأنها منحوتة بأميل مثال متمكن.. عنوان الكتاب «أيام العز»، بقلم صاحب اسم لم يكن له رنين حينذاك: عزالدين نجيب. مجموعة قصصية ذات طابع إنسانى خاص، شأنها شأن الغلاف الذى صممه المؤلف، بنفسه. لازلت أتذكر قصة «الشحم»، أو الأدق، بعض تفاصيلها، مثل بطلها الشاب الباحث عن العمل، الواقف، مرتبكا، أمام مدير فى حجرة واسعة، فاخرة، لكنه لاحظ أن «أطراف السجادة متآكلة».. عند الانصراف، قام الشاب بمساعدة المدير ــ فيما أذكر ــ على تغيير عجلة سيارته الخلفية، وبعد الانتهاء، انطلق المدير بعربته، دون أن يلتفت للشاب الذى أخذ يمسح الشحم العالق بين أصابعه.

بعد سنوات، التقيت عزالدين نجيب: شاب نحيل، وجه يبعث على الثقة، ملامح متسقة، عيون غائرة، تلتمع بالذكاء خلف نظارة رقيقة الزجاج، يجيد الإصغاء، ابتسامة أمل ومحبة لا تفارق شفتيه أبدا.. وفى مناقشاته، الهادئة دوما، تدرك أنه، بمنطقه المنظم، السليم، يتجه نحو ما هو صحيح، ومفيد، ليس بالنسبة له، لكن لكل ما هو عام، للوطن، والناس.

طوال نصف القرن، جمعتنا الأيام وأبعدتنا ولم تفرقنا أبدا، وخلال السبعينيات، داهمتنى الأخبار باعتقاله عدة مرات.. لحظتها، أدرك أن الأمور ليست بخير، فأن يوضع هذا الرجل الشريف وراء القضبان، فالمؤكد، أن النظام المهزوز، المصاب بالذعر، ترك مخالب سلطته كى تعمل لتكميم أفواه المعارضين، واخفائهم، لأطول وقت ممكن.. السؤال الذى يعلق فى ذهنى هو: كيف قضى فناننا أيامه ولياليه فى الزنازين؟

الإجابة جاءت فى الكتاب الشائق الصادر حديثا، بعنوان «رسوم الزنزانة»، يقع فى «١٣٢» صفحة، وعلى العكس من المتوقع، لا يتضمن الكتاب سوى ما يقرب من الثلاثين «اسكتشا»، مرسومة باللون الأسود، الملائم للأجواء، وبحكم عدم وجود ألوان، داخل السجن، وهى، لوجوه أصدقاء، زملاء المعتقلات، مثل محمد كامل القليوبى، زين العابدين فؤاد، إبراهيم منصور، محمود الشاذلى، وآخرين.. القاسم المشترك بينهم، تلك الصلابة المتجلية فى الوجوه، بأنوفها الشامخة بالكرامة، وشفاهها المضمومة فى عزيمة، ونظرات عيونها التى توحى بأنها تطل على آفاق مترعة بالأمل.

صفحات الكتاب، تتوالى كلوحات بريشة مرهفة لفنان يتمتع بثراء روحى، فضلا عن خيال خصب، فعلى سبيل المثال، يرى عزالدين أشكالا مدهشة تتخلق نتيجة تساقط الطلاء الجيرى عن جدران الزنزانة، يتأملها، يؤلف من بينها لوحات لا تنتهى لوجوه وحيوانات وكائنات خرافية، يقول «وكثيرا ما كانت تأتينى من خلال تلك الأشكال وجوه لمعارف وأصدقاء وأحباب لم أرهم منذ سنوات، فأحكى لهم وتحكى لى. أعاتبها أو تعاتبنى. وقد تهدهدنى وتطيب خاطرى».

داخل المعتقل، برغم ساعات العناء، لم يكن عز الدين سجينا، فمن خلال سطوره، ندرك أنه، مثل صاحب كل روح حرة، لا يتقيد داخل الجدران، خاصة إذا كان يتمتع بعزيمة قوية، وإيمان بصحة معتقداته، وقدرة على اكتشاف الجوانب المضيئة، فى زملاء السجن. هنا، نجد دفئا وونسا وألفة، بل لحظات بهجة، يشيعها المشاغب، أحمد فؤاد نجم، ونستمع لإذاعة، صاحبها ومذيعها زين العابدين فؤاد.

القصاص، الرسام، عزالدين نجيب، المعتقل لثلاث مرات، يورد مشاهد القبض عليه، والتهم الملفقة له، وبعض أسماء المتواطئين فى الأمر، من صغار النفوس، المسجونين فى الضعة والعار، وكلهم، نسيهم التاريخ، وتجاوزتهم الأيام، وبقى الشرفاء، أسماء من رحلوا منهم، محفورة فى الأفئدة، والأحياء منهم، أطال الله من عمرهم وعافيتهم، يواصلون مشوارهم النبيل، طلقاء، سواء خارج الأسوار أو خلف القضبان.. «رسوم الزنزانة»، ينتهى المرء من قراءته الممتعة وقد أصبح أعمق وعيا وأقوى، مما كان عليه.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات