«سولى».. البطولة هى أن تكون إنسانا - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 12:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سولى».. البطولة هى أن تكون إنسانا

نشر فى : الخميس 29 سبتمبر 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 29 سبتمبر 2016 - 9:40 م
يعمل الفيلم الأمريكى «سولى» الذى قام ببطولته توم هانكس وأخرجه كلينت إيستوود، على فكرتين لا يفلتهما أبدا: الفكرة الأولى وهى أن البطولة الحقيقية فى أن تكون إنسانا، بكل نقاط القوة والضعف، الفيلم يتغنى بالإنسان، بعقله، وبعواطفه، وبقدرته على أن يتجاوز الآلات، وأن يُحسن إدارة المواقف الصعبة، أما الفكرة الثانية فهى أمريكية بامتياز، ومضمونها قدرة النظام بكل عناصره على تصويب الأمور، وتحقيق العدالة، والفرز بين الأبطال الحقيقيين، والمحتالين.

«سولى» انطلق من واقعة حقيقية لقيام طيار مدنى محترف فى 15 يناير 2009 بالهبوط فوق مياه نهر هدسون، بعد أن تعطل المحركان، ونجح رغم ذلك فى إنقاذ 155 راكبا، ولكن السيناريو فتح دائرة واسعة للغاية من الخاص إلى العام: قدم تفصيلات الواقعة بالدقيقة تقريبا، وقدم فى نفس الوقت التحقيقات التى أجريت مع الطيار بعد الواقعة، أصبحنا أمام إنقاذ مشوق ومزدوج: إنقاذ الركاب من الموت، وإنقاذ الطيار من تحقيق يمكن أن يدمر سمعته وبطولته.

هنا موضع تميز «سولى»، لقد اكتشف صناعه أنهم يمكن أن يقولوا أشياء مهمة عن البشر، وعن القيم التى تدافع عنها السينما الأمريكية، ورغم أن الواقعة التى أطلقوا عليها «معجزة هدسون»، هى محور الفيلم، فإن الأفكار التى انطلق إليها الفيلم هى التى منحته هذه القيمة، بالإضافة بالطبع إلى إتقان كل العناصر الفنية.

السيناريو لا يبدأ من رحلة الطائرة، ثم هبوطها الاضطرارى، ولكن يبدأ ببراعة من نقطة أعلى، وهى محاولة إنقاذ الطيار سولينبرجر نفسه (توم هانكس) من التحقيق، الذى يحاول فيه محققو هيئة سلامة الطيران، إلقاء مسئولية تحطم الطائرة على سولينبرجر/ سولى، بدعوى أن الطيور لم تدمر المحركين، وأن هناك محركا كان قادرا على إعادة الطائرة من المطار الذى انطلقت منه، بدلا من الهبوط اضطراريا على الماء، فى مغامرة غير محسوبة، رغم نجاة كل الركاب.

البداية الذكية تنقلنا أولا إلى دراما التحقيق وليس إلى دراما إنقاذ الركاب، وهو أمر أفضل وأقوى؛ لأنه سيدخلنا إلى حياة سولينبرجر، وسيقدمه لنا بكل جوانبه الإنسانية، فالرجل الذى اتخذ قرارا فى عدة ثوانٍ أنقذ به الركاب، والرجل صاحب السجل المشرف لمدة 42 عاما فى مجال قيادة الطائرات، تطارده الكوابيس، ويحلم بطائرته وقد اصطدمت المبانى فى نيويورك، بدلا من الهبوط بسلام فوق الماء، نراه معزولا عن أسرته فى فندق فاخر، ومعه مساعده جيف، تطاردهما عدسات الصحفيين الذين حاصروا منزل «سولى».

الطيار الذى يعتبره الرأى العام بطلا قوميا، يمكن الآن أن يطرد من الخدمة، إذا أثبت التحقيق أنه أخطأ فى التقدير، هناك انقلاب كامل من البطولة إلى الاتهام، من السجل المرموق إلى الطرد من العمل بدون مكافأة نهاية الخدمة. يتكلم سولى طوال الفيلم مع زوجته عبر التليفون المحمول، وكأنه فى سجن، لا يقابلها أبدا، يطمئن على بنتيه الشابتين، تحدثه زوجته عن بيت جديد يحلمان به، وسيكون مجرد فكرة وهمية، إذا لم تنته رحلة سولى العملية بمكافأة معتبرة.

موضوع الفيلم الرئيس إذن هو محاكمة بطل بسبب بطولته، وهى فكرة أكثر ثراء من عملية إنقاذ طائرة، والتى تبدو مثيرة أيضا، ولكنها تتحول هنا إلى مشاهد للعودة إلى الماضى، تخدم الفكرة الأقوى، تدعمها وتمنحها قوة، هنا تصرف مدهش، ودرس مهم يقول إن الواقع ليس إلا مادة للفن، وأن الفن ليس فى الواقع المنقول، وإنما فى اكتشاف الدراما داخل هذا الواقع، وقد اتفق صناع «سولى»، المأخوذ عن كتاب بعنوان «أعلى درجات الواجب»، على أن حكاية إنقاذ سولى من العقاب، هى الأهم والأعمق؛ لأنه يمكن من خلالها دمج مشاهد إنقاذ الركاب بسهولة، ومناقشة فكرتين مهمتين وهما معنى البطولة، واختبار قدرة النظام الأمريكى المفتوح على اكتشاف الحقيقة، والفرز بين الأصلى والمزيف.

يربط الفيلم بين البطولة وبين أهمية أن تكون إنسانا، بكل نقاط القوة والضعف، سولى هو النموذج، قوته فى أنه تصرف كبشر طوال الوقت: فى إنقاذ ركابه، والخروج كآخر فرد من الطائرة، وفى أدائه لواجبه حتى اللحظة الأخيرة، وفى اعتماده على خبرته، ليتفوق فى التقدير على أجهزة الكمبيوتر، وأجهزة المحاكاة، وفى علاقته القوية بمساعده جيف، ولكنه «ليس سوبرمان»، ولذلك نراه يعانى من الكوابيس، ويشعر بالخوف على سمعته، بل إنه فى مشهد مهم يتشكك فى قراره، ويسأل زوجته تليفونيا: «وماذا لو كنت اتخذت القرار الخاطئ؟».

بطولة سولى مزدوجة؛ الصمود أمام مأزق توقف محركين فى الجو، والصمود أمام لجنة تحقيق تقترب من إدانته، وقد نجح فى الاختبارين لأنه لم يسمح لخوفه، أو لنقاط ضعفه بأن تؤثرا على قراره، وبطولة سولى أمام لجنة التحقيق هى التى جعلت بطولته الأولى فى الجو، معترفا بها رسميا.

قصة لجنة التحقيق هى التى أتاحت أن ينتقل الفيلم بمكر من بطولة فرد إلى بطولة نظام، فرغم إنقاذ أرواح الركاب، فإن الطائرة لم تعد صالحة للطيران، والإسراف فى الحديث عن تفاصيل «سيستم» الطيران، والأرقام، والقياسات، وعمليات المحاكاة التى رأيناها تتم أمام الرأى العام بشفافية، ليست فى جوهرها سوى اختبار لـ«سيستم» المجتمع فى المراجعة والمحاسبة، لجنة التحقيق هى «عين المجتمع»، أعضاؤها خصوم شرفاء، يتراجعون عن الاتهام، عندما يفحمهم سولى بمنطقه الإنسانى، وعندما يثبت أن محاكاة حادثة طيران، تختلف عن الحادثة نفسها، طيارو المحاكاة تدربوا على العودة للمطار، بينما هو اتخذ القرار فى لحظات الفزع، ثم جاءت نتيجة فحص المحرك الثانى، لتثبت أن سولى كان على صواب.

من خلال صنعة الفن البارعة، انطلقنا من حادثة خاصة محورها بطولة فرد خبير أدى واجبه، إلى فكرة عامة وهى أن وراء هذا الفرد نظاما يراقب ويحاسب، ويمكنه الوصول إلى الحقيقة دون أن يتخطى حقوق الفرد أو المجتمع، هذه الفكرة تعمل عليها أفلام هوليوود كثيرا، وكل الأعمال التى نستقبلها عادة على أنها فضح للنظام الأمريكى مثل فيلم «كل رجال الرئيس»، ليست فى جوهرها سوى تأكيد غير مباشر، على قدرة النظام على كشف المستور، وتصحيح الخطأ، وهذا ما فعلته حرفيا لجنة التحقيق فى جلسة عامة مشهودة.

فإذا كان لديك ممثل فذ مثل توم هانكس يطبع الجدية على وجهه، ويؤدى ببراعة مشاهد لا تُنسى مثل مشهد إبلاغه بأنه تم إنقاذ الركاب جميعا، وإذا كان المخرج إيستوود قد حافظ بدرجة عالية على ضبط مونتاج الفيلم وتدفقه بالذات فى مشاهد الحادثة، ومشاهد الجلسة العلنية، فإننا نكون أمام فيلم متميز فنيا، سينافس بقوة على جوائز الأوسكار، وإن تمنيت ظلالا أقل على وجه سولى لكى نرى تعبيرات هانكس المدهشة، وتمنيت أيضا أن يتأخر القطع فى المشاهد المهمة المؤثرة.

ينتهى فيلمنا بانتصار عناصر النظام الأمريكى جميعا؛ الفرد الذى يؤدى واجبه بإتقان وخبرة (سولى ومساعده)، ولجنة التحقيق التى وصلت إلى الحقيقة والعدالة، والرأى العام الذى انحاز إلى بطولة سولى. هكذا يصنع المحترفون الأفلام، فهل نتعلم؟!
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات