ليلة البحث عن «الأمير الصغير» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 9:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليلة البحث عن «الأمير الصغير»

نشر فى : الخميس 31 مارس 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 31 مارس 2016 - 9:40 م
وضع الراحل الكبير فؤاد حداد يده على جوهر الرواية الفرنسية الشهيرة «الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت أكسوبرى، إذ أطلق شاعرنا المصرى على الأوبريت الذى أعده عن الرواية اسم «من القلب للقلب»، ووضع المسرح القومى يده على الموجة والنغمة الصحيحة، عندما قدم هذا العمل الممتع على خشبته العريقة، بإخراج ورؤية لا ينقصها الإبهار تحمل توقيع رشدى الشامى.

ذات ليلة حضرت العرض مع صديقى العزيز إيهاب الملاح، فعدت منتشيا وسعيدا بهذه المواهب المدهشة، وبتلك الخلطة السحرية التى جمعت بين أشعار حداد، وألحان الموهوب حازم شاهين، وأداء فرقة إسكندريللا، وتشخيص أحمد كمال وعهدى صادق وأحمد حداد، ومجموعة أخرى مميزة من الممثلين، والفنيين.

قبلها بأيام، كانت هيئة قصور الثقافة تقدم ترجمة كاملة جديدة لعاطف محمد عبدالمجيد من «الأمير الصغير» ضمن سلسلة المائة كتاب» العظيمة. فى النصين تقودنا رحلة الأمير البرىء إلى القلب، أو كما كتب حداد: «القلب هوه البصير.. هوه اللى يهدى»، وهو نفس المعنى الذى يقوله الثعلب فى النص المترجم: «ها هو سرى، إنه فى غاية البساطة: إننا لا نرى جيدا إلا بالقلب، فالجوهر مختف عن الأعين».

التقط فؤاد حداد الفكرة، احتفظ فى صياغته المصرية بأبرز ملامح الرحلة ذات الأبعاد الرمزية، والتى يقوم ببطولتها طيار سقطت طائرته فى الصحراء الكبرى، وهذا الأمير الصغير البرىء، القادم من كوكب صغير لا يرى إلا بالقلب.

فى النص الأصلى لأنطوان دو سانت أوكسوبرى لدينا رحلتان فى الحقيقة: رحلة الأمير الصغير ومشاهداته فى ستة كواكب صغيرة للغاية، قبل أن يصل إلى الأرض، ورحلة الأمير الصغير على كوكب الأرض ومشاهداته قبل لقاء الطيار.

وقع الحذف فى نص فؤاد حداد فى الرحلة الثانية، حتى يكتسب العرض المسرحى حيوية وتماسكا، كما وقع الحذف فى مشاهد الثعبان، وهو مخلوق يلعب دورا هاما سواء فى كلام الطيار فى أول الرواية، أو فى حوار الأمير الصغير مع الثعبان فى النهاية، هناك ما يوحى بأن الأمير الصغير طلب لدغة الثعبان ليعود إلى كوكبه، اكتفى فؤاد حداد على الأرض بلوحتى الأمير والثعلب، والأمير والورود، وجعل انتقال وعودة الأمير بلا ألم، بلا شبح الثعبان، ومن دون حضور فكرة الموت.

فيما عدا هذا التغيير، فإن مغزى الرحلة يصل إلينا كاملا، فالبراءة الطفولية تشهد على حماقة الكبار، والأمير الصغير الذى خذلته وردته الجميلة المتعالية، لم ينسها أبدا، وكأن أول ما طلبه من الطيار التائه فى الصحراء أن يرسم له خروفا، يعود به إلى الكوكب، يأكل الأشجار الضارة حول الوردة، من دون أن يأكل الوردة.

رحلات الأمير إلى الكواكب الستة قبل الأرض، قدمت على المسرح بخيال خصب، وبذوق بصرى وسمعى رفيع، وبلمسة ساخرة واضحة: فى أول كوكب ملك ديكتاتور دون رعية، وفى الثانى مغرور يثير السخرية، وفى الثالث رجل سكير يشرب لكى ينسى أنه سكير، وفى الرابع رجل أعمال مصاب بهوس الحساب والأرقام، وفى الخامس وقاد يشعل المصابيح، ويؤدى واجبه بلا كلل، وفى السادس جغرافى متزمت يقتات على ما يشاهده غيره، وهذا الجغرافى هو الذى سيهدى الأمير إلى كوكب الأرض.

أبدع حازم شاهين فى تلحين هذه اللوحات التى كتبها حداد، تلونت الموسيقى، وتنوعت الإيقاعات لتعبر عن المعانى المختلفة، فى لوحة رجل الجغرافيا التى لعبها أداء وغناء ببراعة ناصر شاهين، نكاد نشعر أننا أمام «خوجة» لغة عربية من العصور الغابرة، وهو يردد بطريقة مضحكة: «اعرف يا بنى/ اعرف يااااه/ إن الورد نبات قلقان/يعيش الوقت يعيش الآن/ يصبح بكره فى خبر كان/ ما هوش من علم الجغرافيااااه».

وفى لوحة الوقاد التى أداها الرائع عهدى صادق، تأخذنا الإيقاعات والنغمات إلى عالم الفلاحين فى بساطتهم: «قال الوقاد/دى بلاوى والله بلاوى/ ومسح جبينه بمنديله المحلاوى».. وفى لوحة رجل الأعمال تطغى جملة موسيقية نشطة تعبر عن شخصية أقرب إلى الآلة الحاسبة، أو كأنه منشار «طالع واكل..
نازل واكل»، أو كأنه أحد حيتان زمن الانفتاح: «أفكاره حركة/ أى والله/ أفكاره حركة/ تحت الكواكب/ أى والله/ فوق المكاتب/ أى والله/ قاعد وراكب/ أى والله/ زى اللى بيقسم فى تركة/ أى والله/ شاف الكواكب/ أى والله/ مالهاشى صاحب/ أى والله/ قام هوة ساحب/ أى والله/ نفسين دخان/ وفتح له شركة/ أى والله»..

مستقبل حازم شاهين سيكون حتما فى المسرح الغنائى، وكأنه قد خلق من أجله.

منحت أصوات الكورال للوحات ثراء مدهشا، كانوا يقومون بالتعليق الساخر على ما نراه من ألوان وأقنعة، ظهر أفراد «اسكندريلا» خلف لوحة شفافة، نراهم حينا وقد يختفون، وجلس الطيار أقصى المسرح، أو وقف ليقوم بدور الراوى، استغل المخرج رشدى الشامى كل فراغات الخشبة، يمينا ويسارا ووسطا، ومن خلال ديكورات وإضاءة محمود صبرى، وملابس سهيلة ونوران، ننتقل فعلاً إلى عالم خيالى غريب، ينتمى إلى فانتازيا القصة الأصلية، ويصبح كل مشخصاتى فى دوره، وبين رسوخ أحمد كمال، وبراءة أحمد حداد، نعيش تجربة فنية ناضجة وواعية.

الأمير الصغير عاش عاما فى رحلته، ولكنه تعلم وعلمنا، الثعلب فى القصة وفى النص المسرحى ليس رمزا للمكر الشرير، بل هو رمز للحكمة، لقد سئم أن يأكل الدجاج، فيقتله الصيادون، طلب أن يتآلف مع الأمير الصغير، ومنحه مفتاحين للحياة: المحبة وبصيرة القلب، وعلمه أن ما هو جوهرى فى الحياة، هو بالتحديد ما لا يمكن أن تراه العيون.

لن يغادر الأمير الأرض إلا بعد أن يهتدى هو والطيار إلى بئر فى الصحراء، بالصبر يمكن أن تجد، دائما يوجد الأمل، ولكنك لم تبحث، ولم تؤمن بقلبك، لن يتغير العالم إلا بأن يتغير البشر، بأن يعودوا إلى الفطرة والبراءة وإلى الخيال، هنا فقط يمكن أن يتسع الكوكب للجميع، وليس لفرد واحد أحمق أو مغرور، كل فرد مسئول عن الوردة التى أحبها، والأمير الصغير فى داخل كل شخص وليس فى خارجه أو فى الصحراء، ابحث عنه.. تجده.

نظرة رومانتيكية تتحدى شراسة الواقع، وعرض ممتع وملهم، فى تلك الليلة التى شاهدت فيها العرض، رأيت الكبير «شوقى حجاب» صاحب «عصافير الجنة» و«كوكى كاك» سعيدا مبتهجا، والتقيت المخرجة التسجيلية فريال كامل، ورئيسة التليفزيون السابقة ميرفت رجب، وأسعدتنى فتاة صغيرة قالت لى إنها جاءت من طنطا خصيصا لتشاهد العرض، ثم تعود إلى بلدها فى نفس الليلة، وتحممت بأمطار منعشة فى الشارع، فاكتملت دائرة البهجة الصافية.

تمنيت أن يزور هذا العرض المحافظات، وحلمت أن يكون «الأمير الصغير» فى كل مكان فى عالمنا البائس، وليس فقط على خشبة المسرح القومى.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات