محمد نشأت يكتب: على باب اللجنة - منبر الشروق - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:46 ص القاهرة القاهرة 24°

محمد نشأت يكتب: على باب اللجنة

نشر فى : الخميس 30 مايو 2013 - 1:00 ص | آخر تحديث : الخميس 30 مايو 2013 - 1:00 ص
محمد نشأت
محمد نشأت

كنت أتصفح كتاب الطب الشرعي أمام قاعة الامتحانات، في اللحظات الأخيرة قبل بدء امتحاني. وكنت أقرأ في موضوع الحمض النووي DNA واستخدامه في قضايا إثبات الأبوة ونفيها.. حينما تذكرت قصة حدثت منذ سنوات كانت حديث الشوارع والقهاوي والمواصلات.

 

أصغر أم في العالم.. كانت هذه القصة باختصار تتسابق الفضائيات على مراهقة لم يتعدَ سنها الثانية عشرة وهي تحمل طفلتها على ذراعيها، وتتنقل من فضائية لأخرى، مكررة نفس القصة التي لا يمل منها المشاهدون.

 

القصة لا تتوقف عند طفلة أنجبت طفلة، لكن ولمزيد من الدراما.. فالطفلة كانت ضحية عملية اغتصاب بشعة بعد أن تم استدراجها لإحدى المباني حديثة البناء على الحدود الخارجية لقريتها من قبل أحد الشباب الذي حددته بالاسم ومعه أحد أصدقائه الذي عمل كـ"ناضورجي" للجريمة البشعة.

 

الاتصالات تنهال على البرنامج من سيدات باكيات يصرخن في الهاتف بالمطالبة بإعدام الوحش في ميدان عام أو بتعذيبه حتى الموت، وبعضهن طالبن بتقييده في ميدان عام ورميه بالـ"جزم" حتى الموت، وهن يتحسرن على براءة وجه الطفلة المسكينة. لا يقتصر الأمر على ذلك، لكن لم يخلُ الأمر من أصحاب القلوب الرحيمة ما بين من أعلن تبرعه بشقة مطلة على النيل في أفخم مناطق القاهرة للطفلة وطفلتها، ومن يعرض عليها وأبويها الانتقال للإقامة في الخليج في سكن محترم ووظيفة مرموقة للأب الذي كان عاملاً -على ما أذكر-، وهذا بخلاف سيل من التبرعات النقدية والعينية للعائلة المسكينة.

 

90 دقيقة مع معتز الدمرداش.. خصص فقرة شبه يومية للطفلة وأخبارها. لا مشكلة ما دامت هي حديث الساعة. شاهدت لقاءً مباشرًا للفتاة وأبويها مع والدي المغتصب على الهواء. كانت أم المغتصب – الهارب بالطبع - تبكي مؤكدة أن ابنها لم يفعل شيئاً ولو كان ابني عمل كده هاتوه أقتله بإيدي.. كانت تبكي بحرقة وهي تقول إن ابنها قد خسر حياته.. فسمعته قد انتهت وأصبح رمزاً للشر في مصر وخارجها ممن تابعوا القضية، خسر وظيفته وأية وظيفة مستقبلية للأبد، خسر كل طموحاته في العمل والزواج، فضلاً عن أنه أصبح هارباً مطلوباً من قبل العدالة.

 

وتلتفت الأم إلى الطفلة الضحية سائلة إياها: انتِ متأكدة يا حبيبتي إنه هو؟ مش يمكن حد تاني وانتي اتلخبطتي؟ ترد الطفلة باندفاع وكراهية واضحة: أيوة هو.. هو أنا يعني هاتبلى عليه؟! بصراحة وقتها علقت على رد البنت وأسلوبها وقُلت: هو المفروض إن طفلة زي دي لما تتعرض لاغتصاب بالشكل ده هترد على السؤال ده بالشكل ده؟! بدون حتى ما يبان عليها أي انكسار! تدخلت أم الطفلة صارخة بأن عيب أوي كده، احنا "مابنرميش بلانا على مجرم زي ده".

 

المهم.. حسماً للجدل توصلوا لاختراع -معرفش نسيوه ليه من الأول- وهو مكالمة بسيطة مع طبيب شرعي أكد لأم الشاب أن تحليل الـ DNA سوف يثبت براءة أو إدانة ولدها بالدليل القاطع.

 

في يوم من الأيام شاهدنا خبراً مقتضبا ببراءة الشاب المتهم باغتصاب الطفلة طبقاً لتحليل الحمض النووي DNA. لم أسمع عن ظهور الشاب في برنامج واحد تعاطف مع مستقبله وحياته الضائعة في وسط مجتمع قروي لا يعرف عن الـDNA سوى إنها لعبة محامي شاطر ليس إلا، ولا تكفيه حتى للقبول بوظيفة أو زواج أو غيره.

 

حقيقةً.. لا أتهم الإعلام المرئي بعدم الأخلاقية إذا تعلق الأمر بالسبوبة، فكيف تتهم قناة هادفة للربح إذا ربحت؟ وكيف تنتظر منهم الاهتمام بالعلم والأدب والحقائق المجردة إذا كانت الإثارة هي من تصنع الحدث؟ هل تتخيل سوبر ماركت لا يبيع المشروبات الغازية والشيبسي وأنواع الجبن المختلفة التزاماً بالمقاطعة للأمريكان؟ وهل تتخيل متجراً للالكترونيات يخلو من أي بضاعة صينية تعاطفًا مع سوريا؟ حتى ولو امتلك المتجر أشد الكارهين لهؤلاء! لا تنتظر من لاعب كرة أن يتوقف أمام مرمى الخصم حارمًا فريقه من الفوز لأسباب متعلقة بضميره الذي يرى أحقية الخصم بالفوز. ولمن لا يرى وجهاً للشبه بينهما فالتشابه هو البحث عن الهدف.. فالمتجر هدفه البيع واللاعب هدفه الفوز والقنوات هدفها الربح.. لكني أنتظر منبراً يكون هدفه الإعلام.

 

أحد أصدقائي الأعزاء ممن يكبرونني سناً ومقاماً سألني ذات يوم: شفت برنامج كذا امبارح؟ فأجبته: أنا مابشوفش تليفزيون بقالي تقريباً ست سنين. رد وقالي: عشان كده دماغك نضيفة.

شارك بتعليقك