يوميات المصريين في ساحات حفر قناة السويس القديمة.. عطش ومرض وموت - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:33 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يوميات المصريين في ساحات حفر قناة السويس القديمة.. عطش ومرض وموت

إعداد- أحمد عبد الحليم
نشر في: الأربعاء 5 أغسطس 2015 - 2:22 م | آخر تحديث: الأربعاء 5 أغسطس 2015 - 3:10 م
- تكرار موت العمال عطشا بعد تأخر وصول ماء الشرب لعمال الحفر

- الحكومة تجبر المصريين على الحفر كـ"جزية" تدفعها للشركة الفرنسية

- العمال يحاولون الهرب الجماعي من ساحات الحفر مطلقين النار ضد الفرنسيين

- تجييش المصريين لحفر القناة أثر على التماسك الاجتماعي بعد تفشي التذمر بين الأهالي

- عشرات العمال لقوا حفتهم في الصحراء بعد هروبهم من مواقع الحفر لنفاد ماء الشرب

- التيفود والتيفوس والجدري والكوليرا والحمي الراجعة أوبئة أطاحت بالعمال في ساحات الحفر

- تخفيض أعداد الجيش للربع نتيجة تسخير المصريين لحفر القناة
نرصد في الحلقة الثانية من كتاب "السخرة في حفر قناة السويس" الأجواء التي عمل فيها المصريون في ساحات الحفر بعد جمعهم من طول البلاد وعرضها، بالإكراه من قبل الحكومة المصرية، وهو إكراه جاء نتيجة فشل حملة الدعاية التي قامت بها الشركة، والأجور الضئيلة التي كان يتحصل عليها العمال.

المصريون في طريقهم لساحات الحفر
تدخلت الحكومة المصرية لإكراه المصريين على الاشتراك في عمليات الحفر تنفيذا للائحة العمال، بعد فشل الدعاية التي قامت بها الشركة، والأجور الضئيلة التي كانت تعطيها الشركة للعاملين في حفر القناة، والتي لا تتناسب مطلقا مع طبيعة عمليات الحفر، ولا مكان العمل وبعده عن الجهات الآهلة بالسكان ولا السفر الشاق الطويل الذي تتعدد وسائله إلى ساحات الحفر، ومبيت غالبيتهم في العراء وتعرضهم لخطر الموت عطشا وانتشار الأمراض وفتكها بهم.

ورغم أن الشركة فسرت زيادة العمال المصريين وأرجعتها إلى حملات الدعاية التي قامت بها، إلا أن هذا السبب غير واقعي لأن الأمية كانت متفشية بصورة ساحقة في ذلك الوقت، والإعلانات لن تجد من يقرأها.

تدخل الحكومة المصرية هو السبب في زيادة العمال من العشرات في أبريل من العام 1861 إلى عشرات الآلاف في ذورة عدد العاملين في القناة ديسمبر 1861 الذين وصل عددهم إلى 15 ألف عامل تقريبا، وبالتحديد 14697 عاملا.

في ذلك الوقت نشرت جريدة Standard البريطانية مقالا قالت فيه "إن العمال التعسين كانوا يسحبون سرا على الأٌقدام إلى بورسعيد، وقد ربط بعضهم إلى بعض كالجمال، أو كقطعان العبيد في أفريقيا، والتي يسوقها تجار الرقيق من الأقاليم الداخلية إلى الساحل حيث تكون السفن في انتظارهم لنقل هذه السلع الآدمية".

تدخل الحكومة المصرية لم يكن عبر أوامر مكتوبة بخصوصهذا الموضوع، قاصدة بذلك تضليل الرأي العام من ناحية وتفاديا لغضب تركيا وانجلترا من ناحية أخرى، إلا أن تدخل الحكومة لإكراه العمال المصريين على الاشتراك في حفر القناة لم يكن أكثر من جزية تحملتها الحكومة المصرية بعد فرضها عليها من قبل الشركة.


موت العمال عطشا أثناء حفر القناة
لقي كثير من العاملين المصريين مصرعهم عطشا أثناء حفر القناة نتيجة تأخر وصول ماء الشرب إليهم ونتيجة توغل الشركة للحفر في صحراء البرزخ "السويس" دون تأمين ماء الشرب للعاملين المصريين، فالشركة التي تخبطت في البحث عن حلول لمشكلة ماء الشرب في ساحات الحفر، كانت أحيانا تنقل الماء إلى بورسعيد في قوارب أو بواخر، وأحيانا تستعمل المكثفات لتحويل ماء البحر المالح إلى ماء عذب عبر ثلاثة مكثفات "تخيل عشرات الآلاف يشربون من ثلاثة مكثفات.!؟" أو تنقل المياه على ظهور الجمال في براميل.

حلا لمشكلة موت العمال المصريين عطشا أثناء حفر القناة تطوعت الحكومة المصرية بإرسال ثلاثة آلاف عامل لحفر ترعة للماء العذب من قرية القصاصين في مديرية "محافظة الشرقية"، ثم ما لبث ديلسبس أن طالب الوالي سعيد باشا برفع عدد عمال السخرة لحفر ترعة الماء العذب إلى عشرة آلاف عامل، خوفا على سمعة الوالي في فرنسا وتعرضه للنقد نتيجة موت المصريين عطشا، فيما لم يكن يهدف ديلسبس إلا إلى استغلال العمال لتعميق مجرى ترعتي الزقازيق والوادي وإقامة هويس على ترعة الزقازيق وكوبريين عند أبو حماد، والتل الكبير، في ظل تكليف الحكومة المصرية بإرسال عمال السخرة للقيام بتلك الأعمال الإنشائية والإصلاحية، وتحمل جميع نفقات الأعمال والإنشاءات، في تصرف يكشف عن مستعمر أوروبي في أبشع صوره يستنزف عرق الشعب المصري ودمه وماله من أجل حفر القناة.

على الرغم من أن الشركة أصدرت عدة بيانات منسوبة وموقعة ومختومة بأختام العاملين المصريين في قناة السويس بأنهم يعملون برضاهم التام، وأن الشركة تجلب لهم الماء بوفرة وزيادة عن الحاجة، وتوزع الأغذية عليهم، ولا تسمح بأي نوع من أنواع الإهانة، إلا أن الأمية المتفشية بين العمال وشيوخ العمال في ذلك الوقت وجهلهم سواء بالقراءة والكتابة، سبب كافي لإثبات عدم صحة هذه البيانات.

أخذنا بالزور
تتابع التدفق الآدمي للعمال المصريين بشكل منقطع النظير على ساحات الحفر في قناة السويس طوال العام 1862، إذ كان عدد العمال الذين يساقون زمرا إلى ساحات الحفر يتراوح بين 20-22 ألف عامل في الشهر الواحد، في رحلات وصل طول بعضها إلى عشرين يوما، بينهم أربعة أيام من المشي على الأقدام، حتى بدا طريق التل الكبير وكأنه مغطى بالآدميين من كثرة عمال السخرة.

وتروي الوثائق أن السائح الإنجليزي بادجر قابل في طريقه من الزقازيق إلى منطقة القناة جموعا غفيرة من العمال المصريين يقطعون الطريق إلى ساحات الحفر سيرا على الأقدام فسألهم هل جاؤوا بمحضر إرادتهم فأجابوه بالعامية "أخدونا بالزو" أي أنهم أخذوا غصبا عنهم وهو ما سجله في كتاباته we are takn bizzor.

لم يذعن العمال المصريون للنظام الجائر الذي فرضه الوالي سعيد بتجنيد 20 ألفا للقناة كل شهر، فازداد عصيان العمال في ساحات الحفر وساء سلوكهم تجاه الرؤساء الفرنسيين في الشركة، وتعددت حوادث هروب العمال من منطقة الحفر، ومن منطقة القناة كلها، ثم اشتدت حركة الهرب، وتعدت مرحلة الهروب الفردي إلى مرحلة الهروب الجماعي كما سجلت الحوادث هروب 200 عامل من عمال مديرية المنيا، بعد هروب 60 عاملا آخرين في الليلة السابقة، وتعددت حوادث الهروب بين عمال الوجه القبلي ومديرية روضة البحرين ودسوق وطلخا، وكانت حوادث الهروب تشكل تحديا سافرا للشركة إذ أن الهاربون كانوا يطلقون الأعيرة النارية في الهواء تحريضا لزملائهم على الهرب معهم.

كما تعددت حوادث العمال المصريين الذين ضربوا رؤساءهم الفرنسيين، بقلل الماء، وطرحوهم أرضا من على الأحصنة وأوسعوهم ضربا.


طلب ديلسبس تدخل سعيد باشا بعد ازدياد مقاومة العمال لرجال الشركة وتكرار "الإخلال بالنظام" وإعلان السخط وتعطيل سير عمليات الحفر، فاتخذ الوالي "تدابير حازمة جدا" لكبح جماح عنف العمال الثائرين ضد العمل في السخرة.

أرسل الوالي سعيد باشا، سفينة بخارية سريعة، إلى الوجه القبلي، جمعت مشايخ البلاد، وعين كل شيخ بلد مسئولا عن العمال من ناحيته، مكلفا بمراقبة إنتاج العمال في ساحات الحفر والحيلولة دون هروبهم، كما عين سعيد ضباط البوليس لأصطحاب عمال السخرة في سفرهم إلى القناة، كما عين إسماعيل بك حمدي لمهمة حفظ النظام في ساحات الحفر.

استهل اسماعيل حمدي عمله استهلالا قاتما معتما، إذ قبض على زعماء العمال المتمردين وألقى بيهم في غياهب سجن أقيم في منطقة عتبة الجسر عبارة عن منزل منحفض أقيم في مكان منعزل مفصول عن الطريق العام.

كما مضى اسماعيل حمدي في استخدام الشدة والعنف والإرهاب إزاء عمال السخرة المصريين ففرض عليهم رقابة دقيقة من مشايخ العمال، كما عين قوات من البوليس "الشرطة" ترتاد المنطقة الواقعة بين ساحات الحفر والتل الكبير لتعقب العمال الهاربين، مع المعاقبة بالسجن لك عامل يبدو منه إخلال بالنظام أوإهمال في العمل أونزوع للهرب، كما استحدث عقوبات الجلد والضرب العلانية بفرش جلد البقر لجلوس العامل، ثم ينهال عليه شيخ العمال ضربا بالكرباج والعصا.

نجحت سياسة العنف والشدة التي استخدمها اسماعيل حمدي مع زيادة عدد العمال في اجتياز الشركة لأصعب مراحل الحفر وهي المرحلة الخطيرة في طول "هضبة عتبة الجسر" بطريقة بدائية هي الحفر بالفؤوس والقفف على أكتاف ما يقارب من 180 ألف عامل حفروها في أقل من عشرة شهور.

ساحات الحفر
بعد وصول العمال إلى ساحات الحفر منهكي القوة بعد السفر الطويل، تبدأ عملية فرزهم إلى قسمين "الفريق القوي، والفريق الأقوى" ويعطي كل فريق من الفريق القوي قفة لجمع أنقاض عملية الحفر، ونقلها بعيدا عن مجرى القناة في مكان تحدده الشركة، فيما الفريق الأقوى فيعطى كل واحد منهم فأسا يضرب بها في الأرض لحفر القناة ويهبط بها في الأرض إلى أن يبلغ في حفرها العمق المطلوب، ولم يكن العمال يعملون إلا تحت إكراه "ِشيوخ العمال" الذين كانوا يمسكون بالكرباج طوال النهار.

لم يكن يسمح للعمال بالعودة إلى قراهم إلا بعد انتهاء شهر في العمل، وهو ما كان يتحينه العمال للهرب من العمل والهرب من الحراسة المشددة المفروضة ليهم، حتى ضجت الشركة من كثرة الشكاوى من هرب العمال.

وكانت الشركة تبدل عمال السخرة كل شهر، لأن العمال بعد شهر من العمل المتصل في الصحراء وسط الرقابة الصارمة المفروضة عليهم، يصبح إنتاجهم من الحفر ضئيلا كما أن الشركة تكون استنزفت قواه حتى أصبح كعود الثقاب، فمن مصلحة الشركة استبدال العمال المرهقين بالعمل بآخرين جدد، خصوصا أن الشركة لن تتكلف أي شيء من نفقات سفرهم.

تسبب نظام التغيير الشهري للعمال في التأثير العميق في حياة المصريين، إذ كان هذا النظام يعني أن 60 ألف من العمال المصريين يتغيبون كل شهر عن بيوتهم وعن حقولهم ومزارعهم، لأنه بينما يكون 20 ألف في ساحات الحفر، يكون 20 ألفا آخرين في طريق العودة إلى قراهم، فيما 20 ألف الباقين في الطريق إلى مناطق الحفر، خصوصا أن الرحلة تستغرق 20 يوما كما أسلفنا، بالإضافة إلى أنه لا الشركة ولا الحكومة المصرية كانتا تتكفلان بعودة عمال السخرة إلى قراهم، مع الوضع في الاعتبار الهزال الذي كانوا فيه نتيجة أن الشركة استنفذت كل ذرة نشاط منهم، فكانوا يعودون إلى بلادهم عاجزين عن العمل مرة أخرى، بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية الأخرى لتغيب العمال عن بيوتهم ما سبب تفشي التذمر بين الأهالي من أقصى البلاد إلى أقصاها.

تسبب حرص سعيد باشا على إمداد القناة بعشرين ألفا من عمال السخرية شهريا في إنقاص عدد جنود الجيش، الذين كان عددهم في أوائل حكمه أربعين ألفا، قبل أن يهبطوا إلى عشرة آلاف فقط، حتى يستطيع الوفاء بعدد عمال السخرة في ساحات الحفر شهريا، وهو ما سبب معاناة كبيرة للجيش المصري في ذلك الوقت.

الموت عطشا في ساحات الحفر
"كان الموت عطشا يحصد العمال حصدا، فقد كانوا يموتون كالذباب"
على هذه الحال استمر حفر عمال السخرة في قناة السويس، نتيجة عدم كفاية إمدادات ماء الشرب لهم، وعدم كفاية كميات الماء العذب الذي كانت تورده لهم الشركة، أو تعطل مكثفات تحويل الماء المالح إلى عذب، خصوصا أن الشركة سارت على طريقة بدائية في جلب مياه الشرب إلى ساحات الحفر عبر الجمال وعبر السفن، أو الاتفاق مع كبار الصيادين على شحن براميل المياه لهم، وعند التأخر لأي سبب سواء في قوافل الجمال أو السفن في نقل المياه "يصبح الموقف خطيرا جدا" بنص أحد البرقيات.

كان معظم العمال يلوذون بالفرار من ساحات الحفر حين يستشعرون الخطر الداهم بسبب نفاد كميات الماء وتأخر وصول القوافل المنتظرة، فكانوا يلقون حتفهم في الصحراء الغير مأهوله من شدة العطش وتظل جثثهم في العراء تنهشها الذئاب، فيما كان بعض العمال يقاسون كثيرا من شرب الماء المالح من البحيرات أو الآبار.

تفشي الأوبئة والأمراض في ساحات الحفر
اهتمت الشركة بشكل جزئي بتوفير العلاج المجاني الطبي للعمال المرضى، فأنشأت إدارة صحية وعينت الطبيب "أوبير روش"على رأسها مستمرا في منصبه طوال سني حفر القناة.

كانت مهمة الإدارة الصحية شاقة وخطيرة، إذ لم يكن من الهين المحافظة على الصحة العامة بين جموع العمال المحتشدة في الصحراء، كلما زاد العمل في حفر القناة وزاد عدد العمال، مع غياب الحمامات العامة، والمغاسل ووسائل المحافظة على الصحة العامة.

فشلت السياسات التي اتبعتها الإدارة الصحية فشلا ذريعا في منع وقوع الأمراض واتخاذ الحيطة لمنع تسرب الأمراض والأوبئة، فانتشرت الأمراض بين العمال وتفشت بينهم الأوبئة، فكان الموت يطوي العمال طيا، بعد إصابتهم بأقل من 48 ساعة، حين كان أطباء الشرطة يجدونهم جثثا هامدة.

تستمر النظرة الإستعمارية في تعامل إدارة شركة القناة مع المصريين، حين تقرر الشركة قصر تقديم خدماتها الطبية والإنسانية فقط للعمال في القناة، دون باقي الأفراد المقيمين في المنطقة.

نتيجة الحفر باستخدام الأدوات البدائية انتشرت بين العمال في ساحات الحفر، النزلات الشعبية والأمراض الصدرية والرمدية وحالات الإسهال الشديد، والدوسنتاريا وأمراض الكبد.

وقرر أحد أطباء الشركة "بوجوا" أن انتشار الرمد يرجع إلى عدة أسباب منها البرودة الشديدة للصحراء ليلا عقب الحرارة العنيفة المرتفعة نهارا، وكذلك أشعة الشمس المحرقة، وتأثيرها على شبكية العين، وطبيعة عمليات الحفر إذ أن نقل الأنقاض يملأ الجو بذرات التراب التي ينقلها الهواء إلى العين.

في شتاء العام 1863 ضربت البلاد موجة شديدة من البرد القارس، نتج عندها تجمد المياه نتيجة هبوط درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، وأمطرت السماء قطعا من الثلج، فيما كان نصيب ساحات الحفر من البرد أشده وأعنفه.

كانت الوسيلة الأولى لحماية العمال هي مبيتهم داخل منشآت تقيهم قسوة البرد، إلا أن الشركة رفضت تحت مبرر أن من الصعب إيواء وتدفئة جموع العمال الذين يتراوح عددهم بين 10-15 ألفا، قبل أن توزع عليهم كميات من الخشب يوقدونها ليلا للتدفئة، وهي كميات كلفت الشركة حوالي 1200 جنيه مصر، أي ما يقارب 40 ألف فرنك، مع أن ميزانيتها تجاوزت 200 مليون فرنك، وهو ما يعني أن الجنيه المصري كان يساوي 35 فرنكا فرنسيا في ذلك الوقت.

ونستطيع استخلاص أن نسبة المرضى كما سجلتها جداول الشركة تساوي ثلاثة من عشرة% من عدد العمال الكلي، في حين أن نسبة الوفيات بين المرضى تصل إلى 12 % تقريبا، ما يكشف عن الظروف والأجواء الصعبة التي عمل فيها عمال السخرة المصريين في ذلك الوقت.

تجمعت على العمال المصريين الكوارث من كل نوع وصوب، فإلى جانب أهوال أزمة ماء الشرب ومجانية العمل والإرهاق فيه والضرب بالكورباج والزج بهم في السجون، جاءت الأوبئة، بلا هوادة وعصفتهم بهم، التيفود، التيفوس، الجدري والكوليرا والحمي الراجعة.

ظهر التيفود في بدايات العام 1862 في ساحة الحفر رقم 6 بمنطقة عتبة الجسر، وخلال شهر واحد حصر المرض 21 عاملا، وأصيب به 512 عاملا، حسب إحصائيات الشركة لكن الثابت أن هذه الأرقام أقل بكثير من الأرقام الحقيقية لعدة أسباب، أهمها أن المصابين كانوا ينزلون إلى قراهم وهم يحملون المرض، مما أدى حتما إلى انتشاره في عمق البلاد، كما أن عمليات الحفر التي تعطلت في تلك الفترة كانت كبيرة، وهو ما يعني أن المصابين بالمرض كثر، كما أن ساحات الحفر في الصحراء تفتقد إلى أي وسائل نظافة عامة أو شخصية.

وفي العام التالي 1863 والذي كان عاما كارثيا على مصر وأهلها، حل بالبلاد وباءي "التيفود والتيفوس" معا، بعد انتشار مرض الطاعون البقري الذي أهلك 600 ألف رأس من الماشية، قبل أن تقرر الحكومة استيراد عدد كبير من الماشية من دول البحر المتوسط، ما لبثت أن أصيبت الماشية المستوردة بالطاعون، ونفقت.

كما ساعد على انتشار الوباءين سوء التغذية بسبب ارتفاع أسعار اللحوم ارتفاعا فاحشا، وزيادة أسعار المحاصيل الزراعية، ونقص المساحات المزروعة من القمح والذرة "نتيجة تسخير المصريين للعمل في القناة" وزيادة زراعة القطن نتيجة الإقبال على شرائه بسبب الحرب الأمريكية الأهلية، ثم الفيضان الذي أغرق البلاد في عام 1863.

بلغ عدد ضحايا الوباءين 225 مصابا، و37 متوفيا، وهي أرقام دون الحقيقة بكثير.


تسرب وباء الجدري إلى ساحات الحفر في العام التالي، وتوالي الأوبئة يعني أن هناك تقصيرا من القسم الطبي بالشركة في اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لمنع تسرب الأمراض والأوبئة إلى منطقة القناة، قبل أن تجتاح الكوليرا ساحات الحفر في العام 1865، كأخطر وأشد وباء شهدته مدن القناة، وترك الوالي إسماعيل القاهرة هربا إلى القسطنطينية ليكون بمنجاة عن الوباء الذي كان تفشى بشكل سريع ورهيب في الوجهين البحري والقبلي مخلفا حوالي 61 ألف قتيل، خلال ثلاثة شهور، وهي نسبة تشكل 1.2 % من جملة السكان في ذلك الوقت.

على الرغم من أن الوباء تفشى بشدة في منطقة القناة بين شهري يونيو ويوليو 1865، إلا أن وثائق الشركة لا تشير إلى عدد العمال المصريين المصابين بالوباء، واقتصرت في إحصائياتها على العمال الأجانب فقط.

أما شتاء عام 1868 فقد شهد انتشارا لوباء الدوسنتاريا بين العمال المصريين نتيجة الشتاء القارس شديد البرودة، كما أن سوء التغذية كان عاملا هاما ساعد على انتشار المرض، بالإضافة إلى عدم توفير الملابس الكافية للوقاية من البرد في الوقت الذي كان فيه العمال الأجانب ينفقون على مأكلهم وملبسهم لذلك ظلوا بمنجاة عن الدوسنتاريا.

المثير أن الخديو إسماعيل أبدى إعجابه وتقديره لرجال الإدارة الصحية فمنح كبير الأطباء النيشان المجيدي من الرتبة الثالثة، وضمهم جميعا للخدمة في الحكومة المصرية.

اقرأ أيضا:

تاريخ السخرة في حفر قناة السويس.. صفحات العرق والدم



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك