محمود وحمادة وحسام.. مشهد من الثورة لم يره أحد! - مختارات - المعصرة - بوابة الشروق
مختارات
محمود وحمادة وحسام.. مشهد من الثورة لم يره أحد! أخر تحديث: الأربعاء 24 أبريل 2013 - 1:15 م
محمود وحمادة وحسام.. مشهد من الثورة لم يره أحد!

إلى كل من يتاجرون باليأس ويروجون لفشل الثورة ويظنون أنها وصلت نهاية المطاف.. هذه قصة نجاح ثورية لن تراها في الإعلام كتبها لنا الروائي حامد عبد الصمد:

 

جاءت الثورة من وجهة نظري كنتيجة حتمية لعملية إحلال وتجديد يمر بها المجتمع المصري منذ عدة سنوات، في الماضي كانت الأسرة تسلب من الفرد حقوقه الشخصية واستقلاليته وتمنحه في المقابل دفئاً اجتماعياً وتساعده في الزواج وربما تمنحه فرصة عمل، أما في زمن العولمة ونظراً للظروف الإقتصادية القاسية التي تمر بها البلد، فقد اختل هذا العقد الإجتماعي حيث أصبحت الأسرة غير قادرة على الوفاء بوعودها، فأصبح الفرد بالتالي غير مجبر علي قبول القيود، وأدى تفكك بنية المجتمع التقليدية إلى يأس الشباب من الحلول الجماعية والبحث عن حل فردي لمشكلاتهم الخاصة ولمشكلات البلد كلها. ولذلك عندما التقى بعض هؤلاء الشباب في عالم الإنترنت الافتراضي تكتلوا ونزلوا إلي الشوارع ليعبروا عن غضبهم في ثورة يناير، ومع مرور الوقت وعلى المستوي الإجتماعي أصبحت عبارة «اللي مالوش كبير بيشتريله كبير» خاوية بل مثيرة للضحك لجيل ما بعد الثورة، وعلى المستوى الإقتصادي أصبحت عبارة «إن فاتك الميري اتمرمرغ في ترابه» بلا وزن، فشباب اليوم أصبح ينظر بتوجس وريبة إلى كل ما هو كبير وكل ما هو ميري.

 

منذ ستة سنوات تقريباً فات الميري أخي الأصغر محمود، حيث تم انهاء خدمته من القوات المسلحة بقوة القانون لأن أخاه الأكبر كاتب هذه السطور حصل على الجنسية الألمانية، مما جعل محمود، الذي كان يعمل بمكان حساس بالقوات المسلحة بمثابة شخص «لا يؤتمن»، ومع ذلك ظل محمود لسنوات يعتبر نفسه إبناً باراً للمؤسسة العسكرية، إلا أنه ومع دعوات النزول للتظاهر في ثورة 25 يناير كان متفاعلا بشكل كبير، لكنه كان يرفض أي مساس بالجيش أثناء التظاهر حيث يعتبر المؤسسة العسكرية هي الوحيدة القادرة علي حماية مصر اذا آلت الامور للانفلات وغياب الدولة. ومع  ذلك نجحت في إقناعه أن الثورة ليست ضد الجيش بل على العكس فإن سقوط مبارك وانتهاء مشروع التوريث قد يعني بداية إصلاح كل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش. نزل محمود معي وتوجهنا صوب ميدان التحرير يوم 28 يناير 2011. وما إن رأى محمود حواجز الشرطة في ميدان عبد المنعم رياض حتي اندفع نحوها بجنون محاولاً اقتحامها وحده، فقوبل بوابل من الضربات بالعصي من الشرطة والبلطجية حتي سقط مغشياً عليه يسيل الدم من رأسه، بعد 8 غرز في الرأس وغيبوبة استمرت ساعات استيقظ محمود في مستشفى بولاق العام بفكرة كانت تراوده منذ سنوات، قال لي «ما تيجي نعمل مصنع»، أخذته على حد عقله لأنني كنت أظن أنه يهذي من تأثير الضربات، لكنني لاحظت أن لديه خطة كاملة للمصنع وللإنتاج وللتسويق أيضاً. قال لي إنه عندما رأى حواجز الشرطة قرب ميدان التحرير رأى حياته كلها تتجسد أمام عينيه: حاجزا وراء حاجز، وإنه قرر أن يكسر الحواجز مهما كلفه الأمر.

 

بعد أيام سقط مبارك واتصل محمود بصديقه حماده الذي خرج أيضاً من الجيش عن طريق المعاش المبكر، وقررا إنشاء مصنع بالشراكة لإنتاج مواسير ووصلات مياة حديثة، حيث أن لحمادة خبرة طويلة بمجال صناعة البلاستيك وتسويقه. ولكن كانت هناك مشكلة تواجههما، حيث لم يكونا يملكان رأس المال الكافي لانشاء المشروع. فسألاني إذا كنت أرغب في أن أشاركهما المغامرة، فلم أتردد وأرسلت لهما من ألمانيا المبلغ المطلوب، رغم أن أصدقاء كثيرين حذروني أن البلد تمر بمرحلة اضطراب ومعظم المستثمرين الأجانب والمصريين يهربون برؤوس أموالهم للخارج بسبب التخبط السياسي والإنفلات الأمني. ولكن روح الثورة كانت قد تملكت منّا جميعاً فقررنا خوض المغامرة. توجه محمود وحمادة لهيئة الإستثمار وقدما طلباً لإنشاء المصنع. كما تقدما بطلب لجهاز مدينة العبور لاستئجار أحد المصانع المغلقة بالمدينة والتي كان يحتكرها أحد رجال أعمال مبارك و»يسقّعها» حتى يبيعها فيما بعد بسعر كبير. ولكن محمود وحمادة لم ينتظرا استكمال الإجراءات القانونية التي قد تستغرق شهورا، فقاما بشراء أول ماكينة وقاما بتشغيلها بورشة أحد أصدقائهما، وأنتجا عينات من المنتج الجديد عرضوها على تجار الجملة بسعر أرخص من سعر السوق. أطلقوا إسم «إنتربولي» علي مصنعهم الجديد قبل أن يكون هناك مصنع وقاما بإبرام عقود بيع المنتج قبل أن يكون هناك مكان.  ويبدو أن حالة الإرتباك العام في البلد كانت في صالحهما، فقد جاءت الموافقة علي الطلبين في غضون أسابيع من الجهات الرسمية بعد أن كانت مثل هذه الإجراءات تستغرق شهورا وربما سنوات.

 

أعتقد أن مصنعهما كان أول مصنع يتم إنشاؤه بعد الثورة. وهو أول مصنع يأتي بجهود فردية ودون الإستعانة بأموال البنوك. لجأ محمود وحمادة لأصدقائهما القدامي ممن لديهم دراية بالتصنيع والتسويق وتصميم صفحات الإنترنت. جاء حسام ذلك الشاب (فني الحقن) الذي كان يبحث دائما عن فرصة حقيقية للصعود بمهاراته وطموحاته وأصبح مديراً لانتاج المصنع. حسام الذي ظل يعمل فنيا لماكينات الحقن ينتقل من مصنع لآخر باحثا عن فرصة حقيقية يثبت فيها أن قدراته أكبر من أن يكون مجرد فني صغير لا يهتم أحد بمقترحاته في تعديل بعض أجزاء الماكينات لتحقيق معدل انتاج أكبر. أصبح حسام مديرا للإنتاج ومخططا ونجح في تحقيق حلمه في أن يكون خلاقا ومبدعا. فأصبح المصنع الجديد معملاً يختبر فيه حسام تجاربه مع الماكينات ويطبق فيه نظرياته الفنية والهندسية التي لم يسمح نظام ما قبل الثورة بتفعيلها.

 

جلب محمود وحمادة طلاباً من المدارس الفنية ودرباهما ثم منحاهما عقود عمل. قاما بشراء الماكينة الثانية والثالثة وتوسعا في تسويق بضاعتهما في المحافظات. وخطرت ببالهما فكرة جديدة لم تخطر ببال مصنّعي البلاستيك من قبل، حيث قررا ألا يكتفيا بتجار الجملة بل قاما بدعوة سباكي مصر لمؤتمر لتعريفهم بالمنتج وتسويقه، حيث أن السباك أقرب للمستهلك النهائي من تاجر الجملة. ثم حصلا علي عقود تصدير منتجهم الجديد للعراق وليبيا عن طريق علاقات حمادة بالبلدين. ومع الوقت ضاق بهم مصنع الدولة فاستأجرا مصنعا أكبر يتسع للماكينات العشرة وللعمال الجدد الذين بلغ عددهم 103 عامل. وبعد سنة ونصف من إنشائه حصل المصنع علي شهادة الـ «أيزو» للجودة العالمية» وفاز بإحدى مناقصات الدولة حيث أسندت لهم هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة امداد مشروع الاسكان الاجتماعي بمحافظة بني سويف بأنظمة مياه الشرب من مواسير ووصلات.

 

عندما أتجول في أروقة المصنع أرى مصر الجديدة، أو مصر كما يجب أن تكون. رئيس مجلس إدارة المصنع والمدير العام شابان لم يتجاوزا الخامسة والثلاثين، جميع عمال المصنع شباب بين عمر العشرين والثامنة والثلاثين: كلهم مؤهلون ومدربون ويحصلون على أجر يكفيهم ويكفي أسرهم. جميع العمال من كبير الفنيين حتى خفير الحراسة حصلوا على تأمين صحي واجتماعي كامل ويشاركون في أرباح المصنع. كما أن هناك وسيلة مواصلات خاصة بالمصنع تنقلهم من بيوتهم للعمل وتعيدهم إليها. عمال يتفانون في العمل لأن المصنع يغنيهم عن البحث عن وظيفة ثانية وثالثة. أرى عمالا ليبراليين وإخوان وسلفيين وأقباط يتبادلون الآراء السياسية بهدوء وفهم وحرية تامة. وإذا كانت لهم مطالب لا يضربون عن العمل بل يرسلون مندوبهم في مجلس الإدارة للتفاوض مع قيادات المصنع. أراهم وصلوا لصيغة رائعة للعيش معاً لم تنجح طوائفهم السياسية والدينية في الوصول إليها علي المستوي الوطني بعد.

 

وهنا أتساءل: لماذا نجحت الثورة في مشروع محمود وحمادة ولم تنجح في مشروع مصر الأكبر بعد؟ السبب أن محمود وحمادة أدركا من البداية أن العامل هو استثمارهم الحقيقي، فبذلا جهداً في البحث عنه وفي تدريبه وتجهيز الجو المناسب له. أدركا أن العدالة الإجتماعية هي المفتاح الحقيقي للربح، فالعامل الراضي الذي لا يخشى على نفسه وأسرته من المستقبل يعمل بضمير وينتج أكثر، بل يشتري منتجات المصنع من فائض أجره. أدرك محمود وحمادة أن القيادة الحكيمة لا تعني رفع الأصابع وتوجيه الإتهامات، بل امتصاص غضب العمال والحوار معهم وإشراكهم في إدارة وربح المشروع. أدركا أن الوعي السياسي لا يأتي إلا إذا كانت البطون شبعانة والنفوس آمنة. 

 

محمود وحمادة يجلسان في مكتبين فارهين ولا يكادا يصدقان أن حلمهما أصبح حقيقة في هذا الوقت القصير، ولكنهما لا يزالان يحلمان بالمزيد: يحلمان بإنشاء مدينة كاملة لصناعات البلاستيك يجد فيها التاجر والمستهلك كل منتجات البلاستيك من الألف إلي الياء. محمود وحمادة خريجا مدرستين: مدرسة الجيش ومدرسة الثورة: الأولى علمتهما الدقة والنظام والثانية علمتهما المجازفة وعدم الخوف من خوض آفاق جديدة. كلاهما يؤمن اليوم بالحل الفردي ولا ينتظران من الدولة شيئاً غير جو اقتصادي صحي وطرق آمنة لبضائعهم التي تسافر إلى 20 محافظة وتعبر الحدود. محمود ليبرالي وحمادة وسطي متدين ، ولكن لا دخل لذلك في إختيارهما أو تقييمهما للعمال.

 

 

«لو الإقتصاد ما انهارش، لو الشباب لقى فرص عمل حقيقية يوظف فيها طاقاته، يبقى التغيير مسألة وقت، بغض النظر عن تخبط الإخوان وعجز المعارضة» يقول محمود بنبرة تفاؤل أحسده عليها. هو يعلم اليوم أنه ليس بحاجة إلى أن يخوض حرب شوارع لكي يكسر الحواجز، فللحرب أكثر من ساحة قتال وساحة قتاله أصبحت الإقتصاد.  وعندما طلبت منه أن يأتي معي لميدان التحرير للتظاهر ضد الحكومة في عيد الثورة الثاني قال لي «مع نفسك. أنا عندي شغل ومسؤول عن 103 بيت مفتوحين على حس المصنع. تعالي نقسم الثورة نصين: انت تتظاهر وأنا أشغل عجلة الإنتاج!». أحسست في رده بروح الثورة الحقيقية، ففي بلد يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر وأكثر من ربع شبابه عاطل يكون الثائر الحقيقي هو من يأخذ بيد هؤلاء الشباب يعلمهم ويدربهم ويعطيهم فرصة عمل. وهو بذلك يخلق شخصية مستقلة واعية تملك قرارها وقادرة علي المشاركة السياسية الحقيقية. شخصية لا تضللها دعاية دينية ولا تشتري صوتها زجاجة زيت.

 

ولأن لـ محمود مع كل منعطف من منعطفات الثورة قصة، فقد طاله منعطف الإنفلات الأمني، حيث سُرقت سيارته الجديدة التي لم يفرح بها بعد منذ أيام، ولكنه يعتبر ذلك ضريبة صغيرة مقارنة بكل ما كسبه من الثورة. «تغور العربية مادام المصنع موجود.. وتغور كل حاجة بس مصر ما تتسرقش» يقولها محمود بابتسامة قبل أن ينعي سيارته «يا ترى انتي فين يا غالية؟ في بلبيس ولاّ أسوان؟ في غزة ولّا السودان؟»