على دكّة في مانهاتن! - بدون تصنيف - المعصرة - بوابة الشروق
بدون تصنيف
على دكّة في مانهاتن! أخر تحديث: الأربعاء 1 مايو 2013 - 1:42 م
على دكّة في مانهاتن!

جلست على الدكة الخشبية فرحا بما اقتنصته للتو من كتب وأفلام، محاولا نسيان رغبتي الملحة في معرفة تطورات سعر الدولار لأتمكن من تقدير ثمن هذه التعويرة الجميلة بالجنيه المصري، أخذت أستنشق هواء نيويورك الإبريلي الساحر بشغف وأنا أنظر متأملا في ناطحات السحاب المحيطة بي من كل إتجاه وهي تخبئ الشمس خلفها، مستخلصة منها أجمل ما فيها: ضوءها.

 

دخل في مجال رؤيتي فجأة، استغربت استئذانه لي بالجلوس بتذلل لا محل له في هذه المدينة على الإطلاق، ملابسه كانت رثة ومظهره كان مزريا للغاية ونظراته تعرفها جيدا في أعين الذين يسألون إلحافا، لكن حتى فقراء نيويورك المدقعين يعرفون أن الجلوس على الدكك الخشبية الموجودة في كثير من شوارعها حق مكفول للجميع، بعد ثوان أدركت لماذا اختار الجلوس إلى جواري أنا بالذات، كانت حقائبي الممتلئة حتى آخرها بالكتب هي السبب، مرت لحظات قصيرة من الصمت سألني بعدها: "سيدي هل لديك وقت لتسمع قصة"، قلت له محرجا: "نعم"، وأنا أفكر في صيغة مناسبة لإبلاغه فور أن ينتهي من قصته بأنني للأسف لا أحمل أي فكة، قال أنه كان يعمل جزارا لمدة 18 عاما في حي هارلم أحد أفقر أحياء نيويورك، وفجأة طرده صاحب العمل بعد أن أصيب بمرض لم أرد أن أسأله عنه لأنه لم يكن يبدو مريضا أصلا، أو ربما لأنه كان قد صافحني لتوه، ولم أكن أريد لوساوسي أن تبدأ في السؤال عما إذا كان مرضه معديا أم لا، بعد أن انتهى من ترديد قصة متماسكة متوسطة الطول بأداء مقنع أنهاها بالحديث عن زوجته ناكرة الجميل التي هجرته وتركت له إبنهما ليرعاه، قال لي "أنا الآن أتحمل مسئولية إبني فهل يمكن أن تساعدنا اليوم في إيجاد طعام إلى أن أنجح في العثور على عمل".

 

كنت قد قررت في منتصف قصته أن أجزل له العطاء تقديرا لأدائه، لكنه فاجأني عندما أجهش بالبكاء وهو يمسك بالعشرين دولارا التي منحتها له، بعد أن هدأ قليلا قال لي " اعذرني فهذا أكبر مبلغ حصلت عليه منذ شهرين.. كنت أتمنى لو كنت أجيد العزف لكي أعزف شيئا للناس ولا أضطر لحكاية قصتي في كل مرة.. أنت رجل طيب ياسيدي.. أتمنى أن تستمتع بقراءة كل هذه الكتب.. القراءة تجعل الناس يشعرون بآلام الآخرين.. أنا لم أقرأ شيئا منذ ثلاثين عاما على الأقل.. حتى ما قرأته وقتها لم أعد أذكره". كنت خجلا من نفسي بشدة فقد أدركت أنه كان صادقا في كل ما قاله لي، أحببت أن أفعل أي شيئ لكي أواسيه وأخفف إحساسي بالذنب، أخرجت كتاب أطفال كنت قد اشتريته لإبنتي وقلت له "أعط هذا لإبنك سيستمتع به"، هز رأسه بإمتنان وقال لي "لا ياصديقي.. هذا سيؤذيه"، قلت له مندهشا "لا تقل لي أنه لا يجيد القراءة"، قال لي "لا بالعكس هو يذهب إلى المدرسة وسيعجبه الكتاب جدا.. لكنه عندما سينتهي منه سيتمنى لو حصل على غيره وأنا لن أكون قادرا على ذلك.. وهذا سيؤذيه"، أنا الذي كدت أبكي هذه المرة بسبب ما قاله، شعرت أن من واجبي أن أفعل شيئا آخر لأبدي تضامني معه، أخرجت من جيبي عشرين دولارا أخرى ومددتها إليه، فاجأتني ملامح وجهه وهو يهز رأسه قائلا "لا لن آخذ شيئا آخر.. حصلت اليوم على أكثر مما كنت أتمناه.. شكرا لك ياسيدي.. تبدو لي رجلا طيبا لكن احذر.. نيويورك مدينة كبيرة بها أسماك قرش ضخمة يمكن أن يأكلوا شخصا طيبا مثلك في ثواني"، لم يكن لدي ما أقدمه أكثر سوى كلمات طيبة أتصدق بها عليه، لم يكن لدي وقت للتفكير في شيئ من هراء التنمية الذاتية، كان لا بد أن أرتجل شيئا مشجعا وواقعيا في نفس الوقت "لا تحزن سينصلح الحال قريبا وستجد عملا لائقا وسيكون إبنك فخورا بك.. هذه أمريكا أرض الفرص.. وأنت حتما ستجد فرصة.. هل تعلم أن هناك ملايين في بلادي أفضل حالا منك وأكثر غنى يحسدونك لأنهم يتمنون الحصول على جنسيتك الأمريكية"، ظهرت على وجهه بالعافية إبتسامة مريرة، وقف فجأة وكأنه يعلن أنه لا يريد سماع المزيد مما أقول، ثم قال لي "إذن أخبرهم عني لعلهم يشعرون ببعض الرضا"، ثم صافحني بحرارة وانصرف تاركا بصمته المميزة على المشهد الذي كان قبل دخوله فيه يبدو كامل الأوصاف.