اللغة والكلام - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الخميس 30 مايو 2024 11:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللغة والكلام

نشر فى : الإثنين 1 مارس 2010 - 9:39 ص | آخر تحديث : الإثنين 1 مارس 2010 - 9:39 ص

 كتب الشاعر الكبير حافظ إبراهيم قصيدة نشرها عام 1903 عنوانها «اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها»، وهى قصيدة يجسد فيها الشاعر اللغة العربية فى صورة شخص ينعى حياته قبيل الوفاة، وهو يقول على لسانها فى مطلع القصيدة:

رجعت لنفسى فاتهمت حصاتى وناديت قومى فاحتسبت حياتى
رمونى بعقم فى الشباب وليتنى عقمت فلم أجزع لقول عداتى
وَلَدْتُ ولما لم أجد لعرائسى رجالا وأكفاء وأدت بناتى

حيث تقول اللغة العربية فى البيت الأول أنها قد عادت إلى نفسها وتأملت حياتها، فاتهمت عقلها وأساءت الظن بمقدرتها، وكادت تصدق ما ترمى به من عقم، فنادت على قومها المتحدثين بها لنصرتها فلم تجد من يساندها، وعندئذ أدركت أنها هالكة لا محالة.

لكن الشاعر يستدرك الأمر فى البيتين الثانى والثالث مدللا عل أن العيب ليس فى اللغة ذاتها، لكنه يكمن فى المتحدثين بها الذين يقللون من شأنها بدلا من أن يدافعوا عنها.

وما أدركه الشاعر بموهبته مبكرا هو ما قرره قريبا العالم اللغوى الكبير سوسير من تفرقة منهجية بين اللغة والكلام، فاللغة هى مجموعة القواعد الأساسية، أما الكلام فهو التطبيق العملى لهذه اللغة. وعلى هذا فلا يمكن أن يكون العيب فى اللغة، أما العيب كل العيب فلا يكون إلا فى الكلام الذى قد لا يحافظ على قواعد اللغة مما يدفعها إلى التدهور والضياع.

ويحضرنى فى هذا السياق رأى المبدع الكبير يحيى حقى فى أسلوب تعليم قواعد اللغة العربية المتبع بالمدارس، حيث يرى أن المناهج تهتم بأن يحفظ الطالب قواعد اللغة ليقبض عليها، لكن هذه القواعد أشبه ما تكون بالهيكل العظمى للسمكة، لهذا فإن شوكها يجرح يده وينفره من هذه اللغة.

فقد كان يحيى حقى ــ وفقا لتفرقة سوسير ــ يفضل أن يتعلم الطلاب اللغة العربية من خلال الكلام، أى من خلال النماذج الأدبية الرفيعة التى تحبب الطلاب فى هذه الأمثلة المبدعة وتُثَبِّت قواعد اللغة فى عقولهم وقلوبهم، ولهذا فإن تجربة الأزهر فى تعليم قواعد اللغة العربية من خلال الشواهد الشعرية تجربة رائدة يجب أن تحتذى فى مناهج تعليم اللغة بالتعليم العام، بدلا من الاستعانة بالقطع التى يؤلفها السادة الموجهون لتطبق القواعد عليها، على أن يراعى فى النماذج الشعرية التى سوف تستخدم فى هذه المناهج أن تكون من الشعر العذب السلس الذى يواكب روح العصر ويحبب الطلاب فى اللغة والأدب.

ونعود لقصيدة حافظ إبراهيم لنجد أنها أيضا تعلى من شأن علاقة الكلام باللغة وتأثيره البالغ عليها سلبيا وإيجابيا، فعلى المستوى السلبى يقول حافظ على لسان اللغة العربية:

أرى كل يوم بالجرائد مزلقا من القبر يدنينى بغير أناةِ

حيث يقرر حافظ إبراهيم عام 1903 أن كلام الجرائد ــ وسيلة الإعلام الوحيدة فى ذلك الوقت ــ يسىء استخدام اللغة، وهذا يقربها من نهايتها لأن خطاب الجرائد يمثل لدى القارئ ــ دون وعى ــ نموذجا أعلى يسهم فى تشكيل وعيه اللغوى ويطبقه لاشعوريا عند خوضه لمغامرة الكتابة، فماذا كان يمكن أن يقول حافظ إبراهيم لو قرأ صحافة اليوم أو شاهد الفضائيات؟ وهل ندرك حقا خطورة ما يقدم بهما على اللغة والهوية؟

أما المستوى الإيجابى لدور الكلام فى تعلم اللغة، فيتمثل فى قول حافظ إبراهيم بالقصيدة نفسها:

أنا البحر فى أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى

حيث تحفظ أجيال متعددة من المتعلمين والأميين هذا البيت فقط من القصيدة، بتشكيله الصحيح ومخارج نطقه السليمة، وتفهم معانيه وتستمتع بصوره وأخيلته، لأن الشاعر والإذاعى الكبير فاروق شوشة ظل يردده على مسامعنا فى مقدمة برنامجه الرائع «لغتنا الجميلة». إذن فالحل معروف، والعلاج ممكن، إذا كان هناك رغبة حقيقية فى ذلك.

وتبلغ المفارقة بين اللغة والكلام قمتها لدى المتخصصين أنفسهم فى أقسام اللغة العربية بالجامعات، فعلى الرغم من أن خريجى أقسام اللغة العربية يدرسون داخل الكلية الواحدة منهجا واحدا فى النحو والصرف والعروض، وعلى الرغم من أن طالب الدراسات العليا يجب أن يكون حاصلا فى التقدير العام على «جيد» على الأقل، فإن بعض الذين يتخصصون فى أبحاث الماجستير والدكتوراه فى الدراسات الأدبية، يتوجهون بأبحاثهم بعد الانتهاء منها لأحد الزملاء المتخصصين فى الدراسات اللغوية لمراجعتها وتصحيحها قبل الطبع، على الرغم من دراستهم جميعا لمنهج واحد فى سنوات التعليم الجامعى وتفوقهم فيه. لكن حفظ القواعد واستظهارها شىء، والقدرة على استيعاب هذه القواعد اللغوية وتطبيقها فى الكلام شىء آخر.

وأذكر أن أحدهم قد جاء لزميل عزيز بقسم اللغة العربية ليراجع له رسالته التى سيتقدم بها بعد أيام للحصول على درجة الدكتوراه فى الشعر العربى، فلاحظ وهو يتصفح الرسالة وجود خطأ عروضى فى أول بيت شعرى صادفه بها، فأوضح هذا لصاحب الرسالة الذى قال له: لا علاقة لك بهذا، عليك بمراجعة النحو فقط، لأننى سوف أذهب بها بعد ذلك لمراجع عروضى.

وقد حصل هذا الشخص على الدكتوراه فى الأدب العربى بتقدير ممتاز، ولا عزاء لحافظ إبراهيم فى لغته العزيزة.

التعليقات