عودة الروح - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة الروح

نشر فى : الخميس 1 ديسمبر 2011 - 9:25 ص | آخر تحديث : الخميس 1 ديسمبر 2011 - 9:25 ص

«لقد صدق نظر الأثرى الفرنسى: «أمة أتت فى فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى... أو معجزات... أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة... لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلى الأبد» (توفيق الحكيم ــ عودة الروح 2 ــ الفصل الرابع والعشرون).

 

«إن هذا الشعب الذى تحسبه جاهلا ليعلَم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله... إن الحكمة العليا فى دمه ولا يعلم... والقوة فى نفسه ولا يعلم... (المصدر السابق ــ الفصل السادس).

 

هكذا كتب الحكيم فى 1927، وهكذا أيضا عاودته الفكرة نفسها يوم السادس من أكتوبر1973، فكتب فى أهرام اليوم التالى سطورا قليلة تصيب من يقرؤها برجفة الحس الوطنى تحت عنوان «عبرنا الهزيمة». انتهى الحكيم من كتابه «عودة الروح» فى 1927 فى أعقاب الثورة الوطنية العظيمة للشعب المصرى فى 1919، لكن أحكامه التى تضمنتها «عودة الروح» بقيت كامنة فى وجدان هذا الشعب لتظهر فى نقاط التحول الكبرى فى تاريخه. هكذا فعل وهو يلتف حول قيادته الوطنية عقب قرار تأميم شركة قناة السويس فى 1956، ويحتضن القناة كلها ومن يتحمل مسئولية إدارتها فى وجه التحديات الغربية، ويهب دفاعا عن وطنه فى مواجهة عدوان السويس، ويخرج مطالبا باستمرار قيادته الوطنية فى أعقاب هزيمة 1967، ثم يقوم بثورته غير المسبوقة فى يناير2011 ضد الاستبداد والظلم.

 

●●●

 

قد يرى البعض فى الكلمات السابقة مبالغة، فالأمر فى النهاية لا يعدو أن يكون خطوة فى انتخابات برلمانية، ربما تنتكس لاحقا لا قدر الله، وهنا نعود إلى كلمات الحكيم فى «عبرنا الهزيمة» التى أكد فيها أن المهم هو واقعة العبور وليس نتيجته النهائية. تمثلت المفاجأة فيما فعله الشعب المصرى يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين فى أن المسار الانتخابى كان موضع جدل منذ البداية، وكان الكثيرون ــ وكاتب هذه السطور من بينهم ــ يرون أن الترتيب الأمثل لخطوات المرحلة الانتقالية هو البدء بوضع الدستور ثم إجراء الانتخابات بعد ذلك، وإذا كان القول ممكنا بأن هذه المسألة كانت تشغل النخبة دون غيرها من قطاعات الشعب المصرى المختلفة، فإن الانفلات الأمنى الصارخ قد فاقم الاعتراض على الانتخابات لدى الجميع. بل إن البعض أعلن صراحة أنه لن يشارك، أو أنه وجه زوجته وبناته لعدم المشاركة خوفا عليهم من أهوال غير متوقعة، وأضيفت لذلك أحداث التحرير التى فاقمت من إرباك المشهد السياسى بغض النظر عن التقييم المتضارب لها، وكانت الخشية كل الخشية من أن تجرى الانتخابات نتيجة إصرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة على ذلك ثم تحظى بإقبال ضعيف، ويحيط بها عنف صارخ، فتكون نتائجها غير ممثلة بحق للشعب المصرى وأطيافه السياسية المختلفة، لكن الشعب قال كلمته.

 

منذ الصباح الباكر بدت بشائر اليوم المشهود تظهر بوضوح، فالجموع تتدفق على مقار اللجان الانتخابية بأعداد كبيرة من الجنسين ومن شتى الأعمار وصولا إلى أولئك الذين لا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم فى الحركة. لم تنتظر هذه الجموع حتى «تجرب» فى الآخرين فتقدم فى اليوم الثانى إذا مرت الأمور بسلام، وتحجم إن حدث ما لا تحمد عقباه. تحمل الجميع بصبر مشقة انتظار دورهم فى الإدلاء بأصواتهم علما بأن متوسط ساعات الانتظار هذا قد دار حول ساعتين، وتحملوا كذلك بعض الأخطاء التى وقعت فى اللجان بخصوص تنظيم عملية التصويت. لم يحطموا اللجنة أو يهاجموا قاضيا أو يعتدوا على موظف، وإنما صبروا حتى تم تصحيح الأمور.

 

●●●

 

كنت قد لاحظت منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى مارس الماضى أن من تحكم النخبة عليهم بأنهم قليلو الوعى يلحون فى طلب المعرفة والمشورة ومناقشة الإجابات التى تقدم لهم، ولم يكن لهذا سوى معنى واحد وهو أن المصرى بات يشعر بالاقتدار السياسى، وبأن صوته يمكن أن يشارك فى صنع مستقبل وطنه. وقد قارنت هذا بموقف الشعب المصرى من الانتخابات البرلمانية الزائفة قبل ثورة يناير، وهى انتخابات لم يكن يشارك فيها إلا أنصار نظام الحكم وأصحاب المصلحة فى بقائه، أو بعض الفقراء الذين كانوا يُساقون كالعبيد إلى اللجان الانتخابية فى جماعات لا تدرى من أمر نفسها شيئا إلا أنها مأمورة بالتصويت لرقمى 1، 2 اللذين كان الحزب الوطنى يحتكرهما، أو أنصار العصبيات والعائلات الذين لا يطيقون أن يبتعد المقعد البرلمانى عنهم. فى تلك الأيام الكئيبة تكون فى الوعى الجمعى لهذا الشعب أن الانتخابات منبتة الصلة بحاضر الأمة ومستقبلها، ولذلك عزف عنها وتدنت نسبة مشاركته فيها إلى مستويات مزرية، فيما قادت طلائعه السياسية عملية الاحتجاج على النظام الذى بدا محصنا ضد أى إصلاح من داخله.

 

لا أزعم ــ ولا أعتقد أن غيرى يزعم ــ أن الانتخابات ستكتمل بالضرورة دون مشاكل، ولكن معنى البداية فى يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين شديد الوضوح، فالشعب مؤمن بالمسار الديمقراطى الانتخابى، وبقدرته على صنع مستقبل أفضل. وقد تحدث فى الخطوات القادمة مشكلات غير متوقعة، وقد يفوق بعضها حد المألوف، وقد تكثر الطعون القانونية فى صحة النتائج، أو الاعتراضات عليها من المضارين منها، لكن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل دلالات البداية، تماما كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن الشرارة التى أوقدت جمرة الوعى والرغبة فى المشاركة فى صنع المستقبل هى ثورة يناير التى استقطبت تأييدا شعبيا أخذ فى التزايد حتى حققت الثورة هدفها الرئيس فى ذلك الوقت. يبقى أن الدولة بفضل الشعب قد استردت هيبتها فى هذا المشهد الانتخابى، وكانت معركة الانتخابات واحدة من المعارك الفاصلة فى هذا الصدد، فقد اختفى «بلطجية» الانتخابات، وتلاشت «طوابير العبيد»، وبلغ ضبط الدولة عملية الانتخابات مستوى لافتا.

 

●●●

 

طغى المشهد الانتخابى على مشهد التحرير، ولعل ما حدث فى خطوة الانتخابات الأولى أن يكون سببا فى حل التناقض بين «دولة التحرير» و«دولة كوبرى القبة». لقد رفع ثوار التحرير عددا من المطالب الأساسية التى تعبر عن عدم رضاهم عن أداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وما أنجز من خطوات على طريق الثورة، وتشددوا فى مطالبهم كما يحدث الآن بالنسبة لحكومة «الإنقاذ الوطنى»، فإما أن يكون مرشحهم أو بالأحرى أحد مرشحيهم هو رأس هذه الحكومة أو يقومون «بقطع الطريق» إلى مجلس الوزراء على الحكومة الجديدة.

 

وبعد أن قال الشعب كلمته فى أولى خطوات الانتخابات، وأثبت بذلك أنه راضٍ عن خارطة الطريق التى رسمها المجلس الأعلى للقوات المسلحة أتصور أن تكون هذه مناسبة لأن يراجع ثوار التحرير أساليب حركتهم وليس جوهر مطالبهم، فهذه المطالب الخاصة بمحاكمة قتلة الثوار والاقتصاص منهم، وعلاج مصابى الثورة وتعويضهم جنبا إلى جنب مع أسر الشهداء، وضرورة الالتزام بجدول زمنى صارم لتسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة للمدنيين كلها مطالب عادلة ولا مفر من الاستجابة لها من قبل المجلس. أما فرض حكومة بعينها عليه أو إجباره على تسليم السلطة فورا لمجلس رئاسى مدنى فهما مطلبان لا يتمتعان بالتأكيد بتوافق وطنى عام، وهذا ضرورى للاستقرار ومن ثم المضى قدما فى طريق الثورة. وأعتقد أنه من الممكن التوصل بشأنهما إلى حلول وسط (فى إطار الثورة وأهدافها بطبيعة الحال) بمعنى الضغط من أجل أن تأتى حكومة الإنقاذ الوطنى معبرة عن قوى الثورة وتوجهاتها، وكذلك فى اتجاه أن يتمتع المجلس الاستشارى الذى اتفق على تكوينه بالسمة نفسها مع حضور خاص لقيادات الثورة من الشباب.

 

باختصار فإن المطلوب من «دولة التحرير» أن يكون لها قدر من الثقة فى أن الثورة ما زالت قائمة، وأن تصحيح مسارها من داخلها ممكن، خاصة أن قطاعات من الشعب قد يتزايد عددها مستقبلا بدأت تضيق بما يحدث فى التحرير، وتعتبره إضرارا بالمصالح العامة والخاصة، ولعل هذا إن تم يكون أعظم إنجاز لمشهد الانتخاب التاريخى الذى رسمه هذا الشعب العظيم.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية