حركة الجماهير العربية بين الفاعلية والعبث - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 مايو 2024 5:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حركة الجماهير العربية بين الفاعلية والعبث

نشر فى : الخميس 2 أغسطس 2012 - 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 2 أغسطس 2012 - 9:30 ص

فى مرحلة المد القومى التى امتدت بين منتصف خمسينيات القرن الماضى وهزيمة يونيو1967 لعبت الجماهير العربية دورا فاعلا فى التغييرات السياسية الجذرية التى كان الوطن العربى يمر بها آنذاك، وربما لا تعرف الأجيال الجديدة من الشباب العربى ــ أو بعضها على الأقل ــ الدور المحورى الذى لعبته هذه الجماهير فى تطويق مخطط حلف بغداد وإفشاله على سبيل المثال، وكان يرمى إلى ربط البلدان العربية بدءا بالعراق بسلسلة الأحلاف الغربية التى كان هدفها الاستراتيجى هو إحاطة الاتحاد السوفييتى بسياج من الأحلاف العسكرية توقيا لمخاطر انتشار الشيوعية، وقد قادت مصر يومها الحملة المناهضة للحلف على أساس أنه يتعارض واستراتيجية الأمن القومى العربى، وكانت ثمة بلدان مرشحة بالتأكيد لأن تحذو حذو العراق، غير أن حركة الجماهير المعادية للحلف أجبرت حكام هذه البلدان على الامتناع عن الانضمام إليه، بل لقد سقط النظام العراقى الذى ارتضى ذلك الانضمام بعد مدة قصيرة، واختفى الحلف من الخريطة السياسية العربية إلى الأبد. ثم لم تلبث الجماهير العربية فى كل مكان تقريبا فى الوطن العربى أن مثلت دعما فعليا هائلا لمصر فى معركتها الوطنية التى بدأت بتأميم شركة قناة السويس فى 1956 ردا على سحب الولايات المتحدة عرض تمويل السد العالى الذى تمحورت حوله فى ذلك الوقت آمال التنمية الشاملة فى مصر، ووصلت هذه المعركة ذروتها بالعدوان الثلاثى البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى فى نهاية أكتوبر من السنة نفسها، وتكرر الأمر نفسه فى تأييد الجماهير العربية حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسى حتى حققت الجزائر استقلالها، وضغط الجماهير السورية من أجل إنجاز الوحدة مع مصر، وليس هذا إلا غيض من فيض.

 

 مع هزيمة يونيو 1967 لعبت الجماهير العربية آخر أدوارها الفاعلة بالصمود فى وجه الهزيمة، والإصرار على استمرار جمال عبدالناصر فى تولى مسئولياته، بعد أن كان قد قرر التنحى عن موقعه لمسئوليته الكاملة عما جرى، ثم دخلت هذه الجماهير مرحلة سبات عميق بعد الهزيمة التى قد يكون لها أثر قوى ومباشر أحدث تلك السلبية وذلك السكون فى حركة الجماهير العربية، وربما يكون لرحيل قائدها الكاريزمى عبدالناصر فى 1970 أثر مشابه، بالإضافة إلى الضعف البين فى الجانب المؤسسى لحركة الجماهير العربية بمعنى غياب المؤسسات التى يمكن أن تنظم هذه الحركة وتحقق لها الفاعلية، وكذلك الإفقار الذى تعرضت له الجماهير فى عدد غير قليل من البلدان العربية بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة آنذاك، وأدى هذا الإفقار إلى انشغال الجماهير بقوتها اليومى، وأخيرا وليس آخرا لعب القمع المفرط الذى لجأ إليه بعض الأنظمة العربية دورا مع العوامل السابقة فى إحباط الجماهير وشل فاعليتها.

 

لا يعنى ما سبق أن الجماهير العربية لم يكن لها أى حضور فى تلك المرحلة، وعلى سبيل المثال فقد تفاعلت مع الانتفاضتين الفلسطينيتين فى السنوات الأخيرة من ثمانينيات القرن الماضى وفى مطلع القرن الحالى فيما عرف بانتفاضتى الحجارة والأقصى، غير أن الحضور الجماهيرى العربى كان غائبا فى أحداث خطيرة مثل الغزو الإسرائيلى للبنان فى 1982، ضعيفا كما فى كارثة الغزو الأمريكى للعراق فى 2003، قصير النفس كما فى الانتفاضة ضد الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام. واعتبارا من نهاية 2010 بدا أن الجماهير العربية تدشن مرحلة جديدة من تاريخها بانتفاضة الشعب التونسى ضد حاكمه ونجاحه فى إجباره على الرحيل من تونس فى مدة وجيزة نسبيا، وتلاها بأسابيع قليلة الشعب المصرى الذى نجح بدوره فى إجبار حاكمه على التنحى عن منصب الرئاسة عقب ثمانية عشر يوما فحسب من حركة الجماهير التى أخذت فى التصاعد والانتشار حتى نجحت فى تحقيق أهدافها، وشهدت بلدان مثل اليمن وليبيا وسوريا حركات جماهيرية مشابهة حققت أو تكاد أن تحقق هدفها، بالإضافة إلى عدد آخر من البلدان العربية شهد حركات جماهيرية تطالب بالتغيير أو الإصلاح، وأمكن احتواؤها بشكل أو بآخر، وهكذا بدا أن الجماهير العربية قد نفضت عنها غبار السكون وبدأت تسترد فاعليتها على نحو قد يبدو أقوى من مرحلة المد القومى.

 

غير أن هذا الأمل أخذ يتبدد بالتدريج تحت وطأة عوامل مهمة مثل انقسام الجماهير على نفسها، كما يظهر من الانقسام بين التيار الدينى الإسلامى والقوى المدنية، وغياب قيادة واعية تستطيع أن تقود حركة الجماهير، ولذلك بدا عجز هذه الحركة عن تحقيق أهدافها العامة، كما أن إخفاق النظم الجديدة التى أمسكت بالسلطة فى المرحلة الراهنة فى إحداث تغييرات ملموسة تلبى احتياجات الجماهير وبالذات الاقتصادية قد لعب دورا فى التطورات التى طرأت على حركتها. وهكذا استُدرِجَت حركة الجماهير إلى مواقف جزئية تطالب بالوفاء بمطالب لقطاعات منها حتى وإن كان بعض هذه القطاعات شديد المحدودية فى عدده، كما فقدت هذه الحركة اتجاهها العام، ثم بدأ التطور الأسوأ وهو لجوء هذه الحركات الجماهيرية المبعثرة إلى ما يضر الوطن بصفة عامة، ويتجاهل الاعتبارات الإنسانية تماما، وساعد على هذا عدم استرداد سلطة الدولة فاعليتها، وعلى سبيل المثال فقد شاع فى مصر سلوك مؤداه أن تلجأ أى جماعة مهما كانت محدودة العدد إلى قطع الطرق غير عابئة بما سوف يصيب الاقتصاد الوطنى أو مصالح الأفراد من أضرار جسيمة. ويلفت النظر فى هذا الصدد تهافت أسباب هذه الأعمال، فمن يعانى من صعوبة فى توفير الغاز للأغراض المنزلية يقطع الطريق، ومن يشكو من انقطاع التيار الكهربائى يقطع الطريق أيضا، وهكذا. وبلغ الأمر حد الإجرام عندما تسببت مجموعة من الركاب فى حادث لقطار احتجاجا على تأخر القطار الخاص بهم مما أدى إلى إصابة عدد من الأشخاص.

 

ومن الغريب أن تمتد هذه السمة إلى بلدان عربية أخرى لم تشهد مد «الربيع العربي»، فها هو «الشيخ الأسير» يواصل اعتصامه فى مدينة صيدا بلبنان منذ ما يزيد عن الشهر بحيث اختار مكانا لهذا الاعتصام يمثل منفذا حيويا ومهما جدا للوافدين من الجنوب وإليه بدعوى أنه يناضل ضد «السلاح غير الشرعى»، وهو يعلم أن تحقيق مطلبه هذا دونه أهوال يمكن أن تعصف بلبنان عصفا، وقد تضررت جميع فاعليات صيدا من هذا العمل فيما تعجز الدولة اللبنانية عن إيجاد حل له متذرعة بعدم وجود غطاء شعبى وسياسى يوفر لها شرعية لوضع حد لهذا الاعتصام العبثى الضار بمصالح الصيداويين، مما دفعهم إلى حركة سياسية دؤوبة من أجل إقناعه بفك اعتصامه.

 

لم يكن ما آلت إليه حركة الجماهير العربية إذن فى هذه الآونة معبرا عن تحقيق الأمل فى استمرار صحوته بعد مرحلة السلبية والإحباط، وتكاد الأسباب أن تكون معروفة، وإن احتاجت تدقيقا يحقق متطلبات المواجهة الناجحة لهذا العبث بالثورة ومسيرتها.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية