- 1 -
كان صبري سلامة من أعلام الإذاعة المصرية في الستينات و السبعينات، و كان له برنامج يومي قصير في بداية المساء اسمه "ع الماشي"، يتعرض فيه بصوته العذب لقضايا معاشة و أخرى تراثية بطريقة فلسفية خفيفة الظل. و كنت أنا محظوظًا أن لحقت به قبيل وفاته تلميذًا في كلية الإعلام عندما كان يحاضرنا في اللغة و الإلقاء و مخارج الألفاظ. محاضرة اليوم في مدرج 2 موضوعها "الإذاعة الخارجية: كيف تكون بخيلًا في الكلام (لأنك لا تعلم كم سيتأخر الرئيس في الوصول إلى موقع الحدث) دون أن تكون مملًّا". ضرب الأستاذ مثلًا بزميله عبد الوهاب محمود. الزمان: أكتوبر 1980. المكان: الضفة الغربية لقناة السويس. الحدث: افتتاح نفق الشهيد أحمد حمدي. "سيّييداتي .. آاانساااتي .. سااادتي .. و .. ما .. زلنا .. في انتظار .. وصول .. موكب .. الرئيس .. المؤمن .. بطل .. الحرب .. و السلاااااا"، ثم فجأة ينطلق كالصاروخ: "و أرى الآن أمامي موكب السيد الرئيس المؤمن يشق الطريق بلابلابلابلابلا". ثم كما انطلق فجأة يهدأ فجأة: "و .. يتقدم الآن .. السيد .. الرئيس .. المؤمن .. محمد .. أنور .. السادات .. لافتتاح .. نفق .. الشهيد .. أحمد حمدي".
تقدّم السادات بنبرته الخطابية المعهودة: "بسم الله، و باسم الشعب، أعلن افتتاح نُفُق الشهيد أحمد حمدي". أُسقط في يدي عبد الوهاب محمود، و بينما وصل السادات إلى "ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .." كان هو يلطم خديه: "حد يلحقني بالقاموس .. هي نَفَق واللا نُفُق؟" لا بد أنه كان يعلم أن السادات حاول أن يكون صحفيًّا و فشل، و حاول أن يكون ممثلًا و فشل، و حاول أن يكون شاعرًا و فشل، و حاول أن يكون كاتبًا مسرحيًّا و فشل، لكنه لم يعترف أبدًا لنفسه و لا لأي أحد بأنه يمكن أن يكون فاشلًا في شيئ. غادر الرئيس فأمسك الرجل بالميكروفون على مضض: "و .. هكذا .. سيداتي .. آنساتي .. سادتي .. افتتح السيد الرئيس المؤمن .. محمد أنور السادات .. بطل الحرب و السلام في آنٍ معًا .. نُفُق .. الشهيد .. أحمد حمدي".
- 2 -
كان عبد الوهاب محمود من الجيل الثالث في دولة عبد الناصر "الإعلامية"، و هو جيل كان لا يزال فيه - من الناحية المهنية - ما في من سبقوه من استقامة في اللسان و عذوبة في اللغة و حلاوة في الأداء و ثقافة عامة مهذبة الأطراف. المعايير المهنية المتوارثة من زمن ما قبل الخمسينات كانت لا تزال غلّابة بقدر محسوب على المعايير الأخرى التي بدأت في السيطرة مع منتصف السبعينات. لكنه أيضًا - كمن سبقوه و من عاصروه - كان يعلم حدود الدولة "الإعلامية" التي يعمل فيها. لماذا إذًا يمكن أن يكون لسان أمة بأكملها و ثقافتها و تراثها أهم من احتمال - مجرد احتمال - إحساس الرئيس بحرج، أو مما يمكن أن يترتب على ذلك؟
مثلما كان عبد الناصر نفسه - على حد قول تلميذه سامي شرف لنا - "أستاذًا في المخابرات، و أستاذًا في التحركات، و أستاذًا في التوازنات"، كانت أجيال ما بعد 1952 من "الإعلاميين" أساتذة في الصنعة التي ورثوها عن أجيال غرست جذور الصنعة بالسمن البلدي منذ عهد محمد علي. خرجت أول جريدة في هذا القطاع من العالم من مصر، كما كان الحال بعد ذلك مع المسرح و مع السينما و مع الإذاعة. كانت تلك جميعًا، وسط حركة أدبية فذة و مناخ سياسي منفتح، مصادر ثرية للتنوير الحقيقي و للمتعة في حد ذاتها، فماذا حدث في المنتصف؟ ماذا حدث بين قواعد الأولين و أعمدة اللاحقين و بالوعات الذين أتوا من دنس؟
- 3 -
الذي حدث أولًا هو التفات نظر المستبد إلى هذا الكنز بكل ما له من سطوة على الجماهير. بلغت الذروة في ثلاثينات القرن الماضي على يدي جوزيف غوبلز، مهندس التلاعب بالآلة "الإعلامية" في عهد هتلر، فقدمت نموذجًا لكل مستبد. بعدها بأقل من عقدين، انتقلت مصر من عهد إلى عهد، فوقع الإعلام في بؤرة الرؤية لدى قائد التحولات الجديدة في قلب العالم العربي.
- 4 -
"و أخبرَنا جمال عبد الناصر بما ذكره للصحفيين في مؤتمره الصحفي في ذلك المساء (7 مارس/آذار 1954). و أهم ما أشار به عليهم ألا ينسوا أن الجيش قد أصبح عاملًا أساسيًّا في التأثير على السياسة في البلاد، و أن يضعوا هذا في اعتبارهم. كما أنه تناول معهم أيضًا موضوع انتخابات الجمعية التأسيسية التي ستناقش الدستور الجديد. و قد اقترح الصحفيون أنفسُهم ضرورة وجود بعض الأعضاء فيها عن طريق التعيين. و تم الاتفاق على أن تتولى الصحافة حملة بهذا الرأي. و أشار إليهم أيضًا أن يتجنبوا ذكر أي شيئ في صحفهم عن الانشقاق الذي حدث بين محمد نجيب و المجلس، و اتخاذ الحذر عند الكتابة عما يمس السياسة الخارجية و الاقتصادية". من "مذكرات عبد اللطيف البغدادي" (أحد أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة)، المكتب المصري الحديث، الجزء الأول، ص 125.
- 5 -
إذا كنا على استعداد لمناقشة أن لعبد الناصر إنجازات على بعض الأصعدة، فإننا لسنا على استعداد لمناقشة أن من بينها حياة سياسية حقيقية و لا حريات عامة ذات معنى و لا إعلامًا حرًّا بأي صورة من الصور. المسافة من ذلك اليوم الذي وُضعت فيه أسس دولة عبد الناصر "الإعلامية" إلى هذا اليوم الذي اضطر فيه عبد الوهاب محمود إلى التضحية بأم اللغة العربية كلها، كي يعيش يومًا آخر، مسافة طويلة تحتوي تربتها على بذور ما نحن فيه اليوم. لكنها دولة يصيبها ما يصيب الكائن الحي؛ لها طفولتها و لها صباها و لها شبابها و لها أيضًا كهولة و شيخوخة بعدها تموت. نزعم نحن أنها الآن تتصابى في شيخوختها فتفضح حالها و تأتي بالعجب العجاب الذي يدهش عبد الناصر نفسه في قبره، لكنها عن قريب ستُحتضر، و لنا أسبابنا في المقالات التالية.
=====