لحظة بداية الثورة المضادة - يسري فودة - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 8:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لحظة بداية الثورة المضادة

نشر فى : الأحد 27 ديسمبر 2015 - 11:10 م | آخر تحديث : الأحد 27 ديسمبر 2015 - 11:10 م

-1-
الأربعاء، التاسع من مارس/آذار 2011، بينما كنت أستعد لمغادرة المنزل فى طريقى إلى مقر قناة "أون تى في"، كان في انتظاري لقاء خاص على الهواء مع الدكتور محمد البرادعي، بمشاركة الزميلة ريم ماجد، و كان من المتوقع أن يعلن أثناءه لأول مرة نيته الترشح لانتخابات الرئاسة. خرجت من الحمام فوجدت 21 "ميسد كول" من رئيس القناة، ألبرت شفيق، و 10 "ماسيجات" منه و من آخرين: "إنت فييييين! عصام شرف عايزك حااااااااالًا". كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بصفته مديرًا لشؤون البلاد بعد "تخلي" مبارك عن السلطة، قد كلف الدكتور عصام شرف بتشكيل حكومة جديدة قبلها بستة أيام، و جاء ذلك بعد استقالة (أو إقالة) الفريق أحمد شفيق عقب لقائه الشهير معنا على الهواء في أول سابقة من نوعها في العالم العربي.
كانت ثلاث ساعات لا أكثر تفصلنى عن لقاء البرادعى في الاستوديو، و كان فريق التصوير قد سبقنى إلى مقر رئاسة مجلس الوزراء، و كانت حركة المرور فى منتهى البطء. عندما وصلت أخيرًا إلى ما اكتشفت بعد قليل أنه أغرب لقاء تليفزيوني أدخلونى إلى مكتبه الخاص فوجدته يترك مقعده ويهرول لاستقبالي بالقبلات قبل أن يدعوني إلى الجلوس، لا أمام مكتبه، بل فى الصالون الملحق الذى يستقبل فيه كبار الضيوف. اللهم اجعله خيرًا.
-2-
"أنا محتاج كل الشرفاء و الوطنيين يقفوا جنبى"، هكذا بدأ رئيس الوزراء الذي - إلى جانب الإرهاق الواضح - تبدو الآن على وجهه لمحة من الشغف المشوب بالقلق. ثم استمر الرجل الذى وصل إلى هذه الغرفة أصلًا على أسنة رماح الثورة، محمولًا على الأعناق في حديث يفيض صدقًا عن المخاطر التي تحدق بالبلد في هذه اللحظة الفارقة، وهو ما وجد صدى في نفسي نادرًا ما أجده داخلي أثناء لقاءاتي بالمسؤولين. لكن هذا الاكتشاف اكتسب بعدًا جديدًا عندما دخل إلينا أحد معاونيه كي يقول إن كل شيئ جاهز للتصوير في الغرفة الأخرى و أن الوزراء جميعًا هناك. بينما قمنا في طريقنا إلى هناك رأيت زملاء آخرين من التليفزيون المصري و من قنوات خاصة جاهزين بفرقهم و معداتهم في انتظار دورهم بعدي. سلمت عليهم قبل أن تقع على أذني جملة أسرّ بها أحد الموظفين و كأنه يحمل بشرى عظيمة لرئيس الوزراء الجديد: "خلاص يافندم، ميدان التحرير بقى جنينة خضرا"، في إشارة واضحة إلى إخلاء الميدان بالقوة من المعتصمين به.
وقعت هذه الجملة على رأسي وقع المفاجأة لكن الوقت كان قد أزف للتسجيل بينما جلس رئيس الوزراء، و بجواره نائبه و حولهما وزراء الداخلية و المالية و التعليم .. كلهم في لقاء واحد. "مش هينفع الكلام ده" .. قلتها و أنا أستمتع في لحظة نادرة من لحظات التاريخ المصري/العربي بمنظر السلطة و هي تنحني أمام إعلام يمثل الشعب حقًّا، ربما لأول مرة في تاريخه، و يرفع إليها مخاوفه و آماله و هي تسعى إلى إرضائه و تقبل رغمًا عنها مبدأ الخضوع للمحاسبة. نظر الدكتور شرف إلى مستشاره الإعلامي ثم إلى وزرائه المصطفين على مقاعدهم في مشهد يوحي بشكل واضح بأنهم جُمعوا على عجل تنفيذًا لأوامر من أجل رسالة بعينها لم أكن أعلمها. ترافقت تلك الرسالة، كما اتضح لي في تلك اللحظة، مع حدث علمت به بالصدفة قبل قليل من خلال تلك "البُشرى" التي وصلت إلى رئيس الوزراء.
اضطررنا إلى استعارة ميكروفونات إضافية من زملاء في قنوات أخرى تكفي ذلك الجمع كله الذي لم نكن نتوقعه. و عندما بدأ الحوار وجهت حديثي لوزير الداخلية، اللواء منصور العيسوي، و أنا أعرض أمامه هاتفي المحمول: "كيف تضمن لنا أن هواتفنا هذه لم تعد مراقبة من جانب أمن الدولة؟" .. رانت لحظة صمت ارتبك أثناءها الوزير و هو يحاول إقناعنا بأنه لم يعد هناك شيئ اسمه جهاز أمن الدولة، بينما تظارف نائب رئيس الوزراء، الدكتور يحيى الجمل، معلقًا و قد ظن لسبب ما أن ذلك من قبيل خفة الظل: "أنت على راسك بطحة يابني؟" .. لم يضحك أحدـ، و تلخصت الرسالة في نهاية المطاف من جانب وزير المالية في ما معناه "هنفلّس .. لازم نستقر شوية قبل ما نفلّس"، و من جانب وزير التعليم في ما معناه "المدارس .. عايزين نستقر شوية عشان العيال ترجع المدارس قبل ما يضيع مستقبلهم"، و من جانب وزير الداخلية في ما معناه "البلطجية في كل مكان .. عايزين نستقر شوية عشان نقدر نحمي الناس"، و من جانب رئيس الوزراء في ما معناه "الفوضى .. عايزين نستقر شوية عشان فيه ثورة مضادة".
-3-
من الواضح إذًا أن قرارًا كان قد اتخذ على أعلى مستوى بالدفع في اتجاه عودة الحياة في مصر إلى شيىء من "الطبيعية"، يرفع شعار "مجابهة الثورة المضادة" التى وصفها رئيس الوزراء بالمنظمة و الممنهجة، وهو ما كنا نريده جميعًا على أي حال حتى و إن اختلفنا على طريقة التطبيق. و كما أملى عليّ ضميرى قلت له إن أي إعلامي شريف لن يستطيع تبني هذا الخط إلا إذا اقترن بإعلان صريح - أيضًا من أعلى مستوى - عن أن هذا المنهج الجديد لا يخاطر بوأد الثورة، بل إنه يقترن بحزمة واضحة المعالم من الإجراءات العملية المطمئنة. حتى بين هؤلاء الذين تسربت الشكوك إلى نفوسهم في مرحلة مبكرة، لم يكن أحد وقتها يريد أن يصدق أن تلك بعينها كانت بداية "الثورة المضادة".
يدعونا ضميرنا الآن إلى القول إن ما كنا نوعد به من "مجابهة الثورة المضادة" لم يحدث، لا أثناءها و لا بعدها، بل إنه اقترن بمجموعة من الحوادث يصب بنا بعضها في الاتجاه الآخر، من أبرزها القبض على مواطنين "شرفاء عن حق" و وصفهم بالبلطجية في ما كنا نتمنى أن يكون خطأ غير مقصود، وشهادات عن سوء معاملة دعت إلى قلق شديد. وحتى إذا سلمنا بأن ذلك كان خطأ غير مقصود فإن البطء في معالجته زاد القلق شدة و بدأ في الاقتراب مما لم نكن نريد له أن يقترب منه، وهو هذا الرصيد الرائع من الحب و الاحترام المتبادلين بين الشعب و جيشه. عندئذ لن تحتاج قوى الظلام من فلول النظام و مأجوريها و منتفعيها و المتحالفين معها من الداخل و من الخارج إلى أن تبذل الكثير من الجهد كي تشرخ العمود الفقرى لمصر في تلك اللحظة الفاصلة، و كي تعود بنا جميعًا إلى أسوأ مما كنا فيه قبل الثورة.
أُضيفَ إلى هذا التحدى تحدٍّ آخر كان عاجلًا، فقد كنا وقتها على بعد أيام معدودة من يوم الاستفتاء على التعديلات الدستورية رغم أن استطلاعًا للرأى أجراه مجلس الوزراء نفسه أشار إلى أن نحو 60% من الشعب يرفضونها، مثلما يرفضها أبرز مرشحى الرئاسة و معهم مئات الآلاف على شبكات التواصل الاجتماعي. لماذا إذًا لم يبادر أحد بنزع تلك الشوكة الخانقة من حلاقيمنا في الوقت الذى أريدَ منا فيه أن نعود إلى حياتنا الطبيعية؟ كنا سُذّجًا لا نزال في نشوة النصر و في سكرة الحلم الجميل، و كنا لا نزال نعتقد أن شيئًا ما لا بد له من أن يحدث، و أنه لا بد له من أن يحدث سريعًا و إلا .. و إلا ماذا؟ لم نكن نعلم.
* من كتاب "آخر كلام: شهادة أمل في ثورة مصر" - يصدر قريبًا عن دار الشروق

يسري فودة يسري فودة مواليد منشية جنزور، بمصر. إعلامي مصري ساهم في تأسيس قناة الجزيرة وكان أحد نجومها البارزين حتى استقال منها في عام 2009. كما قام بتقديم برنامج اخر كلام على قناة اون تى في إلى أن أعلن إيقاف البرنامج في سبتمبر الماضي.. حصل على درجة الماجستير في الصحافة التلفزيونية وعلى دبلوم الإنتاج التلفزيوني في معهد التدريب التابع للتلفزيون الهولندي، وكان أول مصري يقوم بالإشراف على تدريب العاملين في التلفزيون المصري في إطار اتفاقية التعاون بين مؤسسة فريدريش ناومان الاتحادية واتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري. وفي عام 1993م حصل على منحة من المجلس الثقافي البريطاني لدراسة الدكتوراة في جامعتي غلاسكو واستراثكلايد في اسكتلندا وكان موضوع الرسالة الفيلم التسجيلي المقارن ثم انضم إلى تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية لدى إنشائه عام 1994م، واختير كأول مراسل يتحول للشؤون الدولية قام أثناءها بتغطية حرب البوسنة ومسألة الشرق الأوسط. كما عمل أيضاً أثناء هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1996م مذيعاً ومنتجاً في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية في برامج الأحداث الجارية، وانتقل بعد ذلك إلى تلفزيون وكالة أنباء أسوشييتد برس حيث شارك في إنشاء قسم الشرق الأوسط. والسي ان ان
التعليقات