«البؤساء».. العرض مستمر - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 6:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«البؤساء».. العرض مستمر

نشر فى : الإثنين 3 أبريل 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 3 أبريل 2017 - 9:19 م

غصةٌ فى الحلق، وعينان لا تكاد ترمشان، وعقلٌ منهمكٌ بمقارنة ما تراه على المسرح مع واقع بلادك... تلك حالك أيها المهمومُ بقضيةِ العدالة وأنتَ تطالع حال الشعب ومآل الثورة والثوار فى العرض المسرحى الضخم المأخوذ عن رواية «البؤساء» لأديب فرنسا وشاعرها الأجل فيكتور هوجو.
***
لستُ اليوم بصدد الحديث عما تغدقه هذه التحفة المسرحية العالمية على جمهورها من متعة موسيقية وإبهار بصرى بكرمٍ حاتمى. لن أتحدث عن كونها المسرحية الأقدم فى لندن عاصمة المسرح الأولى فى العالم، التى قُدمت طوال اثنين وثلاثين عاما حتى الآن بنجاح منقطع النظير، وطافت أكثر من أربعين دولة حول العالم، وحصدت جوائز لا حصر لها. لن أتحدث عن إخراج مبدع، وممثلين يسحرك غناؤهم حد البكاء، وديكورات تتغير فى لمح البصر، وخشبة مسرح دوارة كما الحياة، تتحول إن شئتَ إلى ساحةِ قتال أو إلى ليلةِ قمرية على ضفاف نهر السين... لكننى سأحدثك عن جوهر هذا العمل الفذ، عن بعض من ملامح الرواية الأدبية الخالدة التى استند إليها، سأحدثك عن ملحمة «البؤساء» الصالحة لكل مكان وزمان.
***
ها نحن، أيها القارئ اللبيب، فى فرنسا فى مطلع القرن التاسع عشر، فى سياق رواية تتحدث عن الظلم الاجتماعى، فى لحظة تخلى فيها الشعبُ عن ثواره، وانتصرت فيها الثورة المضادة بعد ستة وعشرين عاما من قيام الثورة الفرنسية. تتواصل الأحداث على مدى نصف قرن، وتقدم فيما تقدم تأريخا أدبيا ليومى 5 و 6 يونيو 1832 اللذيْن تصنفهما كتبُ التاريخ على أنهما يمثلان حدثا أعلى من «الشغب» وأدنى من «الثورة». فقد وافق ذلك أول تمرد للثوار المنادين بالديمقراطية على ما عُرف بـ«مَلكية يوليو»، تلك التى أعادت لويس فيليب ملكا على فرنسا، وأفقرت عامة الشعب، واستغلته أسوأ استغلال لصالحها ولصالح محاسيب النظام.
ولعل الكاريكاتير الشهير الذى رسمه آنذاك الفنان الفرنسى «دومييه» للحاكم وهو يتسلم حقائب الممتلكات من الفقراء ليوزعها على الأغنياء كان من أبلغ رسمات تلك الحقبة التى انعدم فيها الإصلاح، وعم فيها الفساد، وانحسرت فيها مكتسبات الثورة، واستُخدمت فيها قوات الأمن لقتل المتظاهرين، ولسحق أى بادرة عصيان بضراوة بالغة، حولها قلم فيكتور هوجو إلى إدانة تاريخية أبدية. فاليوم، لو فتحنا معجم الحركة العمالية الفرنسية على اسم «هوجو»، سنقرأ إقرارا بـ«تطابق أحداث التاريخ الثورى إبان نظام يوليو الملكى مع ما رواه فيكتور هوجو فى رواياته عبر سلاح الأدب».
***
لكن الرواية التى امتدت فترة كتابتها ما بين 1845 و 1862، تتمدد برسالتها إلى آفاق أكثر رحابة. فقد كان أديبنا فى تلك الفترة منفيا خارج البلاد، بعد أن بلغ فى فرنسا مكانة فكرية وسياسية جعلته الغائب الحاضر، الذى يحمل الهم الشعبى حتى من وراء بحار المنفى. فالرواية كما أوضح أديبنا لا تسعى للنيل من لويس فيليب، ولا من خليفته نابليون الثالث الذى انتفض ضده هوجو بعد أن رآه يخيب آمال الشعب ويتحول إلى ديكتاتور. فـ«البؤساء» لم تتوجه برسالتها الثورية ضد رأس النظام بقدر ما كانت تستهدف جسد النظام، الذى يقمع الإنسان، ويسهل استغلال الانسان للإنسان، ويحول فقراء المجتمع إلى مجرمين.
فباللغة الفرنسية، تحتمل كلمة «البائس» معنيين، أولهما هو الفقير المستحق للشفقة والإغاثة، وثانيهما هو المجرم الذى يأتى أفعالا مشينة. ولم يكن عصيا على العقول النبيلة أن تبصر العلاقة بين المعنيين فى ظل الأوضاع التى فرضتها الظروف الاقتصادية فى فرنسا آنذاك. فقد كانت هناك طفرة فى الزيادة السكانية، وثورة صناعية يستغل أربابها الأثرياء طبقة عمالية قليلة الحظ فى الأجور وفى التعليم وفى الرعاية الصحية، سكنت العشوائيات، وعاشت حياة المهمشين الذين تحولوا مع تفاقم البطالة إلى حزام إجرامى ناسف يطوق المجتمع. فزادت السرقات وارتفع منسوب الجريمة وتكاثر أطفال الشوارع.
هكذا كتب هوجو فى روايته: «الجوع والجهل هما بداية المطاف، أما الشيطان فهو المنتهى ونقطة الوصول». عبارة قد تجيب ببلاغة على ذلك السؤال الحائر: «ماذا يصنع التعليم فى أمة ضائعة؟».
يصنع أمة فرنسية راسخة الأركان، ودولة وعت الدرس حين تمسكت بحقوق الإنسان والتزمت بدعم فقرائها وبإدماجهم فى نظام اجتماعى قائم على التكافل والعدالة.
***
كعادة الملاحم التى تقيم بنيانها على فكرة الصراع بين الخير والشر، تقوم ملحمة «البؤساء» على عدة صراعات نفسية لعل أهمها فى هذا المقام الصراع بين نص القانون وروح العدالة. وليست هذه الجدلية ببعيدة هى الأخرى عن أسئلة أوطاننا.
ففى مقابل بطل الرواية چان فالچان الذى بدأ سارقا تحت وطأة الجوع وانتهى قديسا، تبرز شخصية ضابط الشرطة «چافير» الذى يطبق نصوص القانون تطبيقا أعمى دون أى اكتراث بروح العدالة، التى هى رحمة ومساواة. فهو ضابط لم يعرف فى حياته سوى طاعة الأوامر بلا أدنى توقف مع الذات للمساءلة الأخلاقية أو التفكير الممعن فى جدوى ممارساته. فهو المولود داخل السجن المشدد، لأم احترفت قراءة الطالع، وأب محكوم عليه بالأشغال الشاقة، فنشأ محتقرا بنى طبقته، وما لبث أن فطن أن سبيله إلى دفن ماضيه هو الالتحاق بالشرطة.
جافير كما صوره أديبنا ليس شخصا مكتمل الحقارة، ولا يخلو من ملامح إنسانية، لكنه هو الآخر واحد من أولئك البؤساء الذين استغلهم النظام وحولهم إلى ذراعه الباطشة المسلطة على رقاب العباد وفق بيروقراطية قاسية باردة. فما إن أدرك جافير فى لحظة استنارة حقيقة موقفه، واستحالة التوفيق بين واجبه وضميره، حتى خلع قبعته، ووقف على السور الحجرى، وألقى بنفسه فى مياه نهر السين المتلاطمة.
***
أعلم أن كثيرا من أدبائنا ونقادنا يرفضون فكرة أن يكون للرواية «رسالة» إصلاحية، لكن «البؤساء» حالة خاصة، تستدعيها لحظات الظلام، حين تشرف الأمم على هاوية الضياع، ويصبح الفن درعا واقية من الرصاص.
وإذ بث أديب فرنسا العملاق فى ملحمته روح الشعر وحملها قيما إنسانية لا تموت، كتب فى مستهل روايته:
«طالما وُجدت فى عالمنا، بفعل القوانين أو الأعراف، لعنةٌ اجتماعية تصطنعُ جحيما للبشر، وطالما استعصى حلُ مشكلات هذا القرن المزمنة، ألا وهى إذلال الرجال تحت وطأة الفقر، وانحلال النساء تحت وطأة الجوع، وذبول الطفولة تحت وقع الجهل، وطالما وُجد على هذه الأرض جهل وبؤس، فلن تخلو هذه الرواية من فائدة».
***
وبعد..
يقال فى ذكر صفات الشعوب إن الفرنسيين يبتكرون والإنجليز يطورون ويسوِّقون. فالرواية فرنسية والمسرحية إنجليزية. لكن تطوير المسرحية بلغ مبلغا إنسانيا كونيا فى الاحتفال بعيدها العاشر فى منتصف التسعينيات، حين أدى سبعة عشر مطربا دور بطل الرواية «جان فالجان» بمختلف لغات العالم حاملين أعلام بلادهم، لم تكن العربية بينها، للأسف. لكننى يوم حضرت المسرحية، إذ بقيت فى قاعة مسرح «كوين» بعد انتهاء العرض وخروج المتفرجين، لم يكن عسيرا علىَّ أن أتبين وسط صمت المقاعد الحمراء، أصداء أصوات الغائبين فى بلادى، تهتف من وراء الحُجب السماوية وقضبان الزنازين المنسية: عيش! حرية! كرامة إنسانية!

 

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات