عن الحرب الثقافية المستعرة - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الحرب الثقافية المستعرة

نشر فى : الجمعة 26 يونيو 2020 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 26 يونيو 2020 - 8:53 م

وسط مناخ يستعد لانتخاباتٍ رئاسية فاصلة، ويسوده استقطابٌ سياسى متشنج، وتخيم عليه أجواء جائحةٍ أفقدت ما يربو على مئة ألف حياتهم، وحرمت 40 مليون مواطنٍ من وظائفهم، تعيش الولايات المتحدة الأمريكية ما بات ينطبق عليه وصف «الحرب الثقافية». حربٌ ما كانت حركات مكافحة العنصرية لتخوضها، لولا نفخ اليمين المتطرف فى الكير، وتطاير شررها عبر الأطلسى لتصل إلى المملكة المتحدة حيث السمات المناخية والتاريخية المشابهة أوجدت التربة المؤهلة لاشتعالها. وبين ليلة وضحاها، هُدِّمت نصبٌ تذكارية وأُلقيت فى النهر تماثيل مستقرة منذ قرون، وثار الجدال حول مراجعة تاريخ العبودية الأسود، وعن كيفية توصيف ظاهرة إزالة تلك التماثيل: أهى محو للتاريخ وتشويه لتفاصيله أم هو تاريخ جديد يجرى كتابته على أسس أكثر إنسانية؟

فمن أين نبدأ الحكاية؟
***
حين لفظَ المواطنُ الأمريكى الأسود جورج فلويد أنفاسه الأخيرة تحت ثقل الشرطى الأبيض الجاثى فوق عنقه، بدا وكأن بركانا قد انفجر فى موقع الجريمة. ومع اندفاع الصهارةِ، شهدت المدن الأمريكية تظاهرات كاسحة مازالت مستمرة، وصلت إلى أعتاب البيت الأبيض، رافعة شعار «حياة السود مهمة»، الشعار الذى لم يشهد مثل هذا التوهج والقبول الشعبى الواسع منذ نشأته عام 2013. هو بالقطعِ بركانٌ تجمعت فى باطنه حممٌ تراكمت على مَرّ أزمنة من الذل طويلة وجرائم كثيرة مريرة، لتندفع مقذوفاته متخطية حدود الأرض التى شهدت ثورته.
بركانٌ وصفه البعضُ بأن العالم لم يشهد مثله منذ التصعيد العالمى الذى واكب احتجاجات 1968. وفى غفلة من الزمن ومن هراوات القمع، خرجت أيقونة جورج فلويد من إطار مينيابوليس، وبزغت جدارياتٌ تخلد ذكراه فى مختلف المدن الأمريكية والعالمية، من نيروبى إلى مانشستر، ومن برلين إلى إدلب. وتصدرت كلمات القتيل الأخيرة لافتات المحتجين فى الشوارع وقمصانهم ومنشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعى: «أماه! لا أستطيع التنفس!».
***
إن الاحتجاجات ضد العنصرية التى عمّت مدنا عالمية، بمثل ما تخطت موقع الجريمة، سرعان ما تخطّت موضوع الجريمة، بل هى تجاوزت التماس إصلاحات فى الشرطة، وانطلقت تطالب بإنفاذ عدالة مؤجلة كابد غيابها السود فى شتى مناحى الحياة. بل إن المطالب امتدت إلى إعمال مراجعة دقيقة للسردية التاريخية المجحفة التى وقع الأمريكيون الأفارقة ضحية لها فى بلدٍ احتاز الأرض بالإبادة، وزرعها بالاستعباد، وحصد قطنها وتبغها مضَمَّخيْن بدماء العبيد، الذين مثلوا الثروة الكبرى فى العالم، وقدرت قيمتهم فى أمريكا بأربعة مليارات دولار، أى ما يفوق قيمة الصناعات الأمريكية قاطبةً وقتذاك. فلما حَرَّر هذا البلد العبيد عام 1863، لأسباب اقتصادية بحتة، لا علاقة لها بنبل النوايا ولا بإنسانية المقاصد، قَصَر ممارساته الديمقراطية على مواطنيه البيض، وتوافقت نُخَبُه البيضاء على أن كلمة «الشعب» فى عبارة «حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب» لا تنطبق على السود. وتَعامل هذا «الشعب» مع العنصرية التى تلطخ تاريخه على أنها كوارث مناخية اقترفتها الطبيعة الأم بمعزل عن إرادة البشر.

وإمعانا فى تجميل الماضى القبيح، اصطلح علماء اللغة على صك تسميات صماء بغرض التعمية. بات التهجير القصرى للسكان الأصليين يُعرف بـ«درب الدموع»، وصارت تجارة العبيد عبر الأطلسى تُسمى بـ«التجارة المثلثة. وطُوِّبَ زعماءُ الولايات الجنوبية الكونفيدرالية، الذين دخلوا الحرب الأهلية دفاعا عن ثرواتهم من العبيد، وأقيمت لهم النُصبُ والتماثيل فى الميادين. نعم.. كانت تلك التماثيل جزءًا من كذبة كبرى أريد بها تلميع وجه البلاد بعد إعادة توحيدها غداة الحرب. فلقد قامت الوحدة على سردية مريحة للطرفين: المنتصر والمنهزم، سردية تُظهر العبودية وكأنها جاءت طوعا وليس كرها وإذلالا وتعذيبا وبترا وتقتيلا! سردية تُظهر لصوص الاسترقاق وكأنهم فرسانٌ نبلاء، وتُظهر المقتلة البشعة التى خلفتها الحرب الأهلية وكأنها نوعٌ من المباريات الرياضية التى أبلى فيها الطرفان بلاءً حسنا وتنافسا فيها بشرفٍ وشجاعة! تلك هى مَروية البراءة التى تحكى النُصبُ والتماثيلُ لمحات منها، وتلك هى الكذبة الكبرى التى سُميت فيما بعد بـ«الحلم الأمريكي»!
***
وحينما حانت ساعة المراجعة بدت اللحظة الزمنية شديدة الرمزية!
ففى المدن الأمريكية، انبرى المحتجون لإسقاط تماثيل رموز تجارة العبيد، فيما تكفلت البلديات بإزالة الكثير منها تمهيدا لحفظها فى المتاحف. وفى لندن، التى أقر عمدتها بأن جزءً كبيرا من ثروة بلاده وعاصمتها يعود لدورها فى تجارة العبيد»، جرى تكوين لجنة للنظر فى تماشى مختلف معالم المدينة مع فكرة التنوع العرقى. كما جرت تغطية تمثال تشرشل المتورط فى جرائم عنصرية فى الهند وفلسطين واليونان وجنوب إفريقيا. وفى مدينة بريستول الإنجليزية، انقضت الجماهير على تمثال تاجر العبيد إدوارد كولستون الذى تسمت باسمه معظم معالم المدينة، وانتزعته من فوق قاعدته التى استقر فوقها منذ القرن السابع عشر، وطفقت الأذرع الغاضبة تدحرجه فى شوارع المدينة حتى قذفت به إلى النهر وسط عاصفة من التصفيق.

وعلى الطرف الآخر، انبرى رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون لإدانة تلك الانتفاضة، ولجرِّ حركة «حياة السود مهمة» رغما عنها إلى حرب ثقافية مع جحافل اليمين المتطرف، الذين سبق ووظفهم فى كسب معركة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى (Brexit). وهم لمن لا يعرفهم جماعات صاخبة دموية ترفع الشعارات القومية وتدعى المحافظة على الهوية البيضاء وعلى التاريخ البريطانى، فيما مواطنوها الشرفاء الخارجون سكارى حاملون السلاح لا يتورعون عن ترديد الشعارات الفاشية وعن مهاجمة الشرطة نفسها لو حاول أفرادها فرض النظام.

لكن الرئيس الأمريكى دونالد ترمب هو بالقطع أهم رواد الحرب الثقافية وأكثرهم خطورة حتى الآن. فهو لا يكتفى بتطبيق مبدأ «هم ونحن» على حروب أمريكا مع أعدائها الخارجيين، على غرار بوش وريجان من قبله. وإنما هو قد دأب على حشد مؤيديه من الاستعلائيين البيض فى كل مسألة مطروحة فى الشأن الداخلى للبلاد، بداية من الحدود والنسوية وحتى المسألة العرقية، ليقلب بذلك العلاقة التقليدية بين السياسة والحكم، مستخدما سلاح السياسة لحشد قاعدته الانتخابية، بدلا من حشد قاعدته لتغيير السياسات. وهى نزعة لو تعلمون شديدة الخبث وعظيمة الخطورة لا يفلح فى توظيفها مثله سوى بينيامين نتنياهو فى قمع الفلسطينيين!

خلاصة القول، هناك تسونامى ثقافى يجتاح العالم الغربى هذه الأيام، وهناك محاولات مستميتة لاحتوائه ومحاصرة توابعه.. هناك من ينتفضون طلبا للمساواة فى الحقوق المدنية والسلامة الجسدية، وهناك من يصورون التمييز والظلم على أنهما وجهة نظر وإرث تاريخي.. هناك من يرى أن تماثيل الطغاة مكانها داخل المتحف، وهناك من يصر على عرضها فى الميادين لتكون وسيلة فى عداد وسائل السيطرة وسلاحا آخر وسط أسلحة الإخضاع.. هناك من يجثو على ركبته ليظهر احتجاجه السلمى، وهناك من يجثو على ركبته ليخنق ويقتل!
***
وفيما كان تمثال إدوارد كولسون يستقر فى أعماق النهر وسط الأسماك المذعورة، نظمت الشاعرة الإنجليزية ﭬانيسا كايسولى قصيدة بهذه المناسبة، تخاطب فيها تاجر العبيد قائلة:
فلما طُرحْتَ أرضا،
كُسِرَتْ منكَ قطعة،
فإذا بكَ من الداخل،
لستَ إلا هواء،
كل ذلك الزمان، كنتَ أجوفَ القلب
باطنك الخواء.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات