قراءات فى ملحمة الحرافيش القراءة الثانية.. فى جماليات التكرار - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءات فى ملحمة الحرافيش القراءة الثانية.. فى جماليات التكرار

نشر فى : الإثنين 18 أبريل 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 أبريل 2022 - 10:58 ص
وتمر الأيام.. وأعود إلى روايتى الأثيرة، «ملحمة الحرافيش». أقرأها مرة ثانية بصوت مسموع كما يليق بملحمة. ففى البدء كانت الملاحم القديمة تُتناقل شفاهة رغم ضخامتها. وكان بناؤها الشعرى يجعلُ منها نصوصا صوتية بامتياز. وكانت الخصائص الصوتية للملحمة تسهم فى تيسير حفرها فى حافظة الرواة. وحين التُجِئَ إلى النثر لتأليفها، ظلت لغتها محتفظة بجماليات التركيب الصوتى المميز لهذا النوع الأقدم بين أجناس الأدب. هكذا شَرعتُ فى قراءة «الحرافيش» بصوت مسموع، فتجلت لى بعض من جماليات النَفَس الملحمى، وراح النص يفضى إلىَّ بشىء من مكنون أسراره.
• • •
تجمع «ملحمة الحرافيش» بين الأضداد فهى عمل بالغ الضخامة كأنه «بناء فرعونى» على حد تعبير الراحل علاء الديب، وهى فى الوقت ذاته عمل شديد التكثيف يأبى الثرثرة. فما إن نقف عند عتبة العنوان حتى نجد هذا الجمع بين المتناقضات ماثلا ما بين «ملحمة» بما تفرضه من دلالات العظمة والبطولة والالتحام بالمصاعب من جهة، وبين «الحرافيش» من جهة أخرى بما تحمله من معانى التهميش الملتصق بالدهماء. فما إن ندلف إلى الفقرة الافتتاحية للحكاية الأولى حتى نؤخذ بسحرها التصويرى واللغوى عبر سلسلة من الأضداد:
«فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طُرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا».
كان من الممكن أن تبدأ الرواية بالفقرة الثانية التى تسرد مشهد عثور الشيخ عفرة على الوليد عند سور التكية. لكن أديبنا يفضل البدء بتلك الفقرة الآسرة التى تلخص سمات الملحمة العشر فى جملة فاتنة واحدة. فهى فقرة غنائية النبرة شاعرية السرد مقفاة المقاطع. تحكى حوادث مرت بها «حارتنا» التى تبدو بحجم الكون، فى زمان تسبق فيه الظلمةُ الفجر، ويتقدم فيه الموت على الحياة، وتتجسد فيه المعاناة قبل المسرات. إنه زمن ينتظر طلوع الشمس وترزح فيه الحارة تحت الظلمات الثقال. ومن رحم الأضداد التى تذخر بها العبارة هناك استشراف للصراع الذى يعد قلب الملحمة ومحركها، وهناك توقع لضرب الأمثولة الأخلاقية كما فى سائر الملاحم منذ القدم. هى عبارة تعلو بالراوى العليم فوق المشهد، وتحفز سامعيها إلى استخراج أدواتهم التأويلية فى مواجهة نص ملحمى سيلهثون فيه وراء المعنى المخبوء فى بطن الكلمات.
ترى ــ تساءلتُ ــ لماذا اختار الكاتب فاصلة التاء المربوطة قافية لأجزاء العبارة؟ أهى موافقة لنهاية لفظة «الحارة»؟ أم هى «الخطيئة»؟ أم ثمة ضمير مؤنث مستتر يتحرك خلسة فى طيات العبارة كما تحركت أم الوليد فى الممر قبل أن تتركه عند سور التكية؟ أم هى أم رؤوم خافت على الوليد فقذفت به إلى الطريق كما قذفت أم موسى برضيعها إلى اليم؟ العبارة المواربة تحرك الخيال بأكثر مما يحركه صريح السرد.
• • •
تكرار الكلمة
فى هذا النص المتشعب المترامى (592 صفحة)، يلعب التكرار دورا حاسما فى إقرار حالة من التماسك الموضوعى. وقد تتكرر الكلمة ذاتها داخل الفقرة الواحدة لتجعلها أكثر ترابطا على مستو بنيوى مصغر microstructural. مثل تكرار لفظة «همسة» 7 مرات فى: «همسة تدعو النائم أن يستيقظ، همسة تؤكد أن المخازن مليئة بالخير، همسة تلعن الجشع، الجشع عدو الإنسان لا القحط. همسة تتساءل أليست المغامرة أفضل من الموت جوعا (..) ثمل الفضاء بالهمسات السحرية» (ص. 498).
لكن التكرار الأقل شيوعا بين الأقلام والذى أبدى محفوظ براعة كبرى فى استغلاله هو تكرار الكلمة/الدلالة ذاتها على مستو بنيوى كبير macrostructural قد يمتد ليشمل الرواية بأسرها، بمثل ما صنع باستخدام «كلا» حرف الزجر والردع والاستنكار.
(كلا)، كما يستخدمها محفوظ، تأتى منفردة، مدوية، مشحونة بالغضب كقذيفة صوتية من الرفض البات فى حوارات عدة. إذ تقوم الملحمة فيما تقوم على صراع الأهواء المتعارضة والمصالح المتضادة، وكأن (كلا) التى ترد فى مواضع الصدام ما هى إلا محاكاة صوتية لصراع نبابيت متخيلة، أو هى القنبلة التى تتفجر فى الحوار المحتد المحتدم. يهتف بها:
• خضر أمام غواية رضوانة،
• بكر عند عودة أخيه اللدود خضر،
• رضوانة فى نزاعها الأخير مع بكر (وهو يرد عليها: كلا هذه لا تعنى شيئا)،
• تكررها زهيرة ثلاث مرات وتلقى بها فى وجه محمد أنور وهو يستحثها للهرب من الحارة،
• يكررها جلال صاحب المئذنة ثلاث مراتٍ «بلا بكاء» أمام جثمان حبيبته قمر، وتُختتم بها الفقرة فى إشارة إلى تحديه للقضاء والقدر.
• يرمى بها شمس الدين قاتل أبيه فى وجه الفتوة الطامع فى ثروته، وكأنها صفعة تحدٍ.
• «كلا ثم كلا».. يهتف بها ضياء اعتراضا على المضى فى خطبة ابنة العلاف.
• يواجه بها عاشور أخاه ضياء فى النهاية رافضا طريق الوجاهة والإثراء المشبوه ليواصل حلم إقرار العدل مع الحرافيش.
وفى المقابل يستخدم محفوظ أداة النهى (لا) منفردة أيضا فى الحوار، حين يكون الرفض قناعا للضعف: تقولها زهيرة لمحمد أنور وهو يحاول إغراءها، ويقولها عاشور الحفيد لأمه وهى تحاول أن تقنعه بالزواج من بنات الأعيان بعدما استقرت له السلطة. فبقولها يعلن الفتوة انتصارا على ذاته وإذعانا لكبح شهوة المال والجاه.
(كلا) هى صوت دوى الصراع على طول الرواية. أما (لا) فهى صوت نهى النفس عن هوى النفس.
• • •
تكرار العبارة
فى رواية تعتمد التكثيف حدَ التقشف، يتخلى التكرار عن وظيفة الإطناب التقليدية، فيصبح بلاغيا أداة موسيقية تشيع فى النص الشاعرى جرسا صوتيا يشبه ذلك الذى تؤديه اللازمة اللحنية بين مقاطع الأغنية، أو لعله القرار الموحَد المصاحب لجواب متغير، يشيع دعما إيقاعيا توافقيا. ومن الناحية النفسية، يشى التكرار بالصراع الداخلى الذى تعيشه الشخصية. «سليمان لن يتغير»، كررها الراوى على لسان الفتوة سليمان خمس مرات فى صفحتين وخُتمت بها الفقرات ٦و ٧و ٨ على التوالى من الحكاية الثالثة، «الحب والقضبان». فالتكرار يفيد مدافعة السقوط وسخرية الراوى العليم من سليمان أثناء رصد مراحل انحرافه. وما التكرار هنا إلا ليبين الاختلاف عبر الزمن بالمفهوم الفلسفى الدولوزى.
قد لا تتكرر العبارة لفظا وإنما يتكرر نسقها، لإكسابها إيقاعا موحدا رتيبا، مثلا لوصف فتور الإلهام فى قلب عاشور: «فتر حماسه. انطفأ إلهامه. جلله الحياء. عاتب نفسه. عنف عشقه. شد على إرادته..» أو بمثل ما يتكرر نسق الجملة الاستفهامية فى تزاحم الأسئلة التى تغذى تيار الوعى: «من أبوه بين هؤلاء الرجال؟ من أمه بين هؤلاء النسوة؟ رحلا عن الدنيا أم يبقيان؟ هل يعرفانه أم يجهلان؟»
• • •
تكرار الحرف
فى ليلة حزينة، يختفى عاشور الناجى، حامى الحرافيش وفتوتهم، ومؤصل دولة العدل فى حارتهم، فيجد فى البحث عنه عند بزوغ الفجر ابنه شمس الدين، فنقرأ ــ فى معرض التمهيد لهذا الأفول المهيب ــ هذه العبارات الثلاث، التى تجدر قراءتها بصوت مسموع نقرأ فى ص 91 الفقرة 5 التى يتكرر فيها حرف الراء:
«وانتشـرت سحائب الخريف مفضضة بالنور المستتر، وانتصف النهارُ ولم يظهر لعاشور أثـر، عند ذلك تفرق الرجال فى شتى الأنحاء وراء شهادةٍ أو خبر، وعرفت الحارة الواقعة...» (ص. 91)
فى العبارات سجعٌ ملحوظ. لكنه لا علاقة له البتة بسجع الكهان وكتبة التراث، ذلك المحسن اللفظى المتكلف، الصاخب فى تمرده على المعنى واعتداده برنينه الأجوف. فالسجع المحفوظى ههنا يتأثر بالفاصلة القرآنية ويستلهم منها قدرتها على ربط المبنى بالمعنى، بما تحمله من شحنتين متلازمتين: شحنة من الوقع الموسيقى، وشحنة من المعنى المتمم للفكرة العامة. فأى معنى يرتجيه محفوظ من وراء ترداد حرف الراء، لا فى ختام كل عبارة فحسب وإنما فى معظم كلمات الفقرة؟
الراء هى نهاية اسم عاشور، الراء المتكررة تنبئ القارئ سرا بنهاية عاشور!
ومع استمرار اختفائه، على مدى الحوار فى صفحة واحدة نقرأ على تباعد هذه الجمل الحوارية ذات الجرس الواحد والتى تنتهى جميعها بحرف الراء وكأنها نذيرٌ مكفهر تطلقه حناجر جوقة صارخة بضربات القدَر (ص. 94):
ــ فى الأمر سـر
ــ لعله الغدر
ــ الصبـر الصبـر
الحيلة نفسها يستعيدها محفوظ للإنباء عن نهاية «قرة» فيقوم بنثر حرف التاء، نهاية اسم «قرة»، فى المقطع بل ويختمه به:
«كانت الرحلة عادة تستغرق أسبوعا. (..) قال رمانة (..) تمتمت أنسية (..) لا يحسب الوقت فى رحلته بالساعة والدقيقة.(..) قالت رئيفة: مرة تأخر عن ميعاد عودته. ولاذت عزيزة بالصمت.» (293)
• • •
وليس أحب إلىَّ من أن أختم حديثى بهذه الصورة التى يتكرر إطلالها برأسها من وراء الصفحات على طول الرواية، ألا وهى صورة الدنيا التى يشبهها محفوظ بامرأة متبدلة الأحوال. فتارة تراها رضوانة «تغمز بعينها اليسرى» هازئة بعد إفلاس زوجها. وتارة يراها جلال عبدربه «عجوزا ماكرة قاسية لا حد لمكرها ولا لقسوتها» بعد مقتل أمه. فإذا ما استقرت الفتونة لصاحب المئذنة عادت للدنيا فى عينيه صورتها اللعوب. وها هو قد «غرق فى خضم الدنيا ولكنه لم يغفل قط عن خداعها، لم تخدره ابتسامتها، لم يطربه عذب حديثها، كان حاد الشعور بلعبتها المرسومة..».
داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات